أفكار عن الروائح وحاسة الشم


هارون يحي

المقال مترجم الى : English Deutsch

 

تصادفنا روائح كثيرة متنوعة خلال حياتنا اليومية، ولن يكون مستغربا إذا قلنا إننا نعيش وسط بحر من الروائح، وهناك عالم واسع من الروائح يحيط بنا. فهناك روائح الأزهار والأشجار والمواد الغذائية المختلفة، وروائح الحيوانات والمصانع وحتى الروائح التي تنتج من النشاط البكتيري.

 

ولو ألقينا نظرة عامة على عالم الروائح الواسع لظهرت أمامنا مسألة مهمة جدا وهي وجود علاقة خاصة قائمة على التناسب والتوازن بين الروائح المحيطة بنا وبين ما نشعر به من تقبل لهذه الروائح واستمتاع بها، فما يفيدنا نستمتع برائحته وما يضرنا ننفر من رائحته، فالروائح المنبعثة من المأكولات والمواد الغذائية المفيدة لأجسامنا تثير فينا قبولا واستحسانا وميلا نحو تناول تلك المواد. فرائحة الطعام المطبوخ تثير فينا ميلا نحو الأكل وخصوصا إذا كانت بطوننا خاوية. وبهذه الطريقة تحقق هدفين الأول الاستمتاع بالأكل، والثاني ملء البطن والاستفادة من الأكل.

 

ومن جانب آخر لا تثير فينا روائح الأطعمة المطبوخة ذلك الميل نحو الأكل إذا كانت المعدة ممتلئة ومشغولة بهضم ما فيها من طعام لأن الحاجة تنعدم في هذه الحالة إلى تناول وجبة إضافية من الأكل، أما الروائح التي تكون منفرة فمعظمها ذو مصدر مضر بالنسبة إلينا. فنحن مثلا نستطيع أن نميز المواد الكيمياوية المسمومة من خلال روائحها المنفرة، والروائح المنبعثة من النشاط البكتيري والتي تكون حادة وغير مقبولة تنبئنا بخطورة المواد المنبعثة منها مثل رائحة الفواكه أو الأغذية المتعفنة.

 

إذن فالحقيقة التي لا جدال فيها هي أن الروائح ذات أهمية حياتية قصوى بالنسبة إلى الإنسان. وبشكل عام تتميز المواد الضارة بالروائح غير المقبولة، ولذلك يمكن تمييزها بسهولة من خلال هذه الصفة، فعلى سبيل المثال يشبه نبات البقدونس نبات الشيكران من ناحية المظهر الخارجي أما من ناحية الرائحة فهما مختلفان عن بعضهما البعض اختلافا تاما.

 

فالبقدونس رائحته مميزة ومقبولة، أما الشيكران فرائحته منفرة للغاية ومثيرة للاشمئزاز. وبواسطة هذه الصفات المميزة للروائح المختلفة نستطيع أن نتجنب تناول المأكولات والمشروبات السامة والضارة. ولولا ذلك لكانت أجسامنا معرضة باستمرار لحالات التسمم، ولأصبحت الحاجة ملحة عند التنقل إلى حمل كتب وقوائم تحتوي على أسماء الأغذية الضارة والمفيدة.

 

ومثلما لكل شيئ في الوجود موازين ومعايير دقيقة فكذلك الأمر بالنسبة إلى أجهزة الشم، فحاسة الشم عند كل كائن حي مصممة كي تتلاءم مع الوسط الذي يعيش فيه، ولنأخذ الإنسان على سبيل المثال، فلو كانت حاسة شمه أضعف مما هي عليه لما استطاع تمييز الحالات الخطرة التي قد تدهم حياته، ولو كانت أقوى مما هي عليه كأن تكون على الدرجة نفسها من القوة عند الكلب فإن حياته تصبح مليئة بالمواقف الصعبة التي تشغله طيلة الوقت، وربما تحولت حياته إلى جحيم لا يطاق لاستغراقه بالكامل في تحسّس الروائح المختلفة المحيطة به. والمعاير الدقيقة التي نتحدث عنها يمكن ملاحظتها لدى الجزيئات التي تتكون منها الروائح.

 

 

 

 

 

 

وعلى سبيل المثال تكون رائحة معينة مقبولة و طيبة عند التراكيز الطبيعية، ولكنها تغدو غير مقبولة ومنفرة في حالة التراكيز العالية. ونذكر مثالا على ذلك رائحة النباتات المختلفة في حديقة ما، فهي مقبولة ومنعشة، ولكنها تصبح غير مقبولة عندما تحول هذه الروائح إلى محاليل مركزة. وهذا دليل على أنها مخلوقة وفق نسب مثالية كي تتواءم مع طبيعة الإنسان.

 

ويتضح لنا أنّ كل ما يتعلق بالروائح من تفاصيل تركيبية وبنائية مخلوق ومصمم من قبل الله عز وجل الذي أنعم بها على الإنسان من جملة نعمه التي لا تحصى، و من أجل استيعاب حقيقة نعمة واحدة من النعم الإلهية يمكن افتراض عكس ما هو موجود في نظام الكائنات، فتكون للمواد المفيدة لنا والموجودة في الطبيعة روائح غير مقبولة بل مثيرة للاشمئزاز، كيف كان سيصبح حالنا لو أن الماء انبعثت منه رائحة مثل رائحة البنزين أو أن الخبز كان ذا رائحة مثل رائحة الغذاء المتعفن؟ فحينذاك يصبح تناولنا لهذه المواد صعبا بل متعذرا مهما كانت درجة الجوع عندنا، بل ولتحول تناولنا لأشهر المأكولات التي تعجبنا إلى عذاب نفسي لا يطاق.

 

إن هذه الروائح موجودة معنا في الطبيعة، و نحن نتحسسها منذ لحظة الولادة، غير أنّ البعض من السارحين في بحر الغفلة يظن أن الروائح وجدت بالمصادفة أو من تلقاء نفسها.

 

ولكن لو فكروا بعمق و روية في المعلومات التي سقناها سابقا لانكشفت أمام أعينهم الحقيقة الكبرى المتمثلة في أن الله الخالق البارئ المصور جلت قدرته هو الذي خلق جميع هذه المواد الغذائية التي تحتاجها أجسامنا وأكسبها روائحها المميزة والمقبولة، وهو الذي خلق حاسة الشم في أجسامنا وأكسبها الصفات المميزة والمتلاءمة مع طبيعة الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه مثلما خلق باقي الحواس وأجهزة الجسم المختلفة. ولا شك أن هذا الخلق المعجز ما هو إلا قطرة من بحر رحمته الواسع. وبرحمته حبب إلينا المفيد من تلك الروائح الطيبة، وما على الإنسان إلا أن يشكر الله عز وجل، وسيجزي الذين شكروا ريح الجنة إن شاء الله، تلك الريح التي هي أصل كل الروائح الطيبة في الدنيا، أما جاحدوا نعمة الله تعالى فسيجزون ماء الصديد وعذاب السعير، وكان وعد الله حقا.

 

بعض ما تذكرنا به الروائح المنبعثة من جسم الإنسان

عندما يتعرض الإنسان للجوع لفترة قصيرة، أو عند إسراعه في المشي أو صعوده درجات السلم بسرعة أو حتى عند قيامه بنشاطه اليومي المعتاد فإن رائحة جسمه تصبح غير مقبولة إذا أهمل بعض ما ينبغي عمله للحفاظ على نظافة جسمه. وحتى لو بقي ساكنا قليل الحركة فإن رائحة جسمه تصبح غير مقبولة عند إهماله الاستحمام والتنظيف. ومثلما هنالك حكمة من وجود أي شيئ في هذا الكون فإن هناك حكمة من تكون الرائحة غير المقبولة في جسم الإنسان عند إهماله النظافة.

وكان يمكن لمشيئة الله عز وجل أن تجعل حاسة الشم لدى الإنسان غير قادرة على تحسس مثل هذه الروائح غير المقبولة، أو أن تجعل هذه الروائح مقبولة بالنسبة إليه. إذن ماهو السبب من خلق هذه الروائح غير المقبولة؟

 

لا شك أن هذه الروائح غير المقبولة تعتبر نقيصة وعلامة عجز لجسم الإنسان؟ ومثل هذه النقائص في جسمه تجعله يشعر أنه خلق بهذه العيوب، وهي تذكرة له أن الكمال لله وحده و أنه كائن مخلوق محتاج دوما إلى رحمة الله عز وجل ولطفه.

 

والإنسان يحس بالحاجة إلى الاعتناء بنظافة جسمه بين فترة و أخرى مهما كان مواظبا على هذا العمل لأن البكتيريا التي لا ترى بالعين المجردة تعمل عملها باستمرار منتجة تلك الروائح غير المقبولة، وهذه الحالة تذكرنا بأن الدنيا فانية ولها عيوب ونقائص، أما الآخرة فباقية وفيها النعيم المقيم، وتذكرنا أيضا باستحالة التغلب على مظاهر الدنيا الخداعة. وتبين لنا أن المؤمنين سيبعثون أحياء مرة أخرى ولكن بدون تلك الروائح غير الطيبة بل في مكان ملؤه العطر الطيب والمسك الفواح أي جنة الخلد.

 

ومن جانب آخر تكشف لنا أيضا مدى وخامة عاقبة الناكرين والجاحدين لفضل الله عز وجل، وهي العاقبة المؤدية إلى جهنم وبئس المصير، جهنم التي ملئت بأصناف الروائح النتنة. (والعياذ بالله). و تذكرنا رائحة الجسد غير المقبولة أيضا بعدم جدوى تشبث الإنسان بالتكبر والغرور وبأن جسمه ليس بمنأى عن العيوب, فالإنسان عاجز وفي جسمه عيوب كثيرة.

 

وهذه العيوب باقية في جسمه لا يستطيع التخلص منها مهما بذل من جهد وتحمل العناء في سبيل ذلك، لا فرق في ذلك بين أجمل إنسان أو أنجح إنسان أو أذكى إنسان. ومن المفيد أن ننبه كون الزهور

التي تنبت في تربة طيبة ذات روائح طيبة ومنعشة بالرغم من تعرضها لعوامل الطبيعة المختلفة كالرياح والأمطار والغبار، وكذلك باقي النباتات المختلفة ذات الروائح العطرة فإنها تظل محتفظة بروائحها دون أن تتأثر بعوامل الطبيعة القاسية، ولا تحتاج إلى تنظيف أجسامها لأن الله عز وجل خلقها ومنحها تلك الصفات الفريدة.

 

(وَ هوَ الذِي أَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَأَخرَجنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيءٍ فَأَخرَجنَا مِنهُ خَضِرًا نُخرِجُ مِنهُ حَبّا مُتَرَاكِبًُا وَ مِن النّخلِ مِن طلعِهَا قِنوَانُ دَانية وَ جَنّاتٍ مِن أَعنَابٍ وَالزّيتُونَ وَ الرّمّانَ مُشتَبِهًا وَغَيرَ مُتَشَابِهٍ أنظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثمَرَ وَينعِهِ إنَّ فِي ذَلِكُم لآياتٍ لِقومٍ يُؤمِنُونَ) سورة الأنعام- الآية 99

 

تتميز الزهور التي تنبت من التربة بروائحها الطيبة و التي تنتشر في البئة. و تبدو نظيفة و زكية الرائحة بالرغم من تعرضها لعوامل الابئة المختلفة من غبار و مطر و رياح. أما الإنسان فينبغي إعتناءه بنظافة جسمه بالرغم من الإمكانات التي يمتلكها.

لقد درج الإنسان‌‌على تشبيه الجميل والنظيف بالزهرة الندية فواحة الرائحة، لذلك فإن تكبّر الإنسان وغروره لا معنى لهما أمام هذه الحقيقة، وبالنتيجة يمكن القول إنّ رائحة جسم الإنسان المتغيرة تعتبر دليلا من الأدلة الكثيرة التي تشير إلى كون الإنسان كائنا مخلوقا، وهو دليل يذكره بضعفه وعجزه كي يتجنب الخوض في بحر الكِبر والغرور، وعلى الإنسان أن يتأمل في هذه الدروس والعضات.

والقرآن الكريم يدعو الإنسان إلى هذا التفكر:

(إِنّ فِي خلَقِ السّمَوَاتِ وَ الأَرضِ وَاختِلاَفِ اللّيلِ وَالنّهَارِ وَالفُلكِ التِي تَجرِي فِي البَحر بِمَا يَنفَعُ النّاسَ وَمَا أّنزَلَ الهي مِنَ السّمَاءِ مِن مَاءٍ فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا وَبَثّ فِيهَا مِن كُلّ دَابّةٍ وَتصرِيفِ الرّيَاحِ وَالسّحَابِ المُسَخّرِ بَينَ السّمَاءِ وَالأرضِ لآياتٍ لِقومٍ يَعقِلُونَ) سورة البقرة- الآية 164.

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ أفكار عن الروائح وحاسة الشم

  • مقارنة بين أنف الإنسان و الأنف الإلكتروني

    هارون يحي

      أولا وقبل كل شيء يجب التذكير بأن العلماء قد بينوا بأن قدرة الأنف على الإحساس بالروائح لا مثيل

    22/12/2009 8381
  • ذاكرة الشم

    هارون يحي

        إنّ حاسة الشم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالذاكرة، وذاكرة الشم هي التي تقودنا إلى معرفة هوية

    10/12/2009 10077
  • حاسة الشم لدى الطيور

    هارون يحي

      كان الاعتقاد السائد في أوساط العلماء وحتى إلى ما قبل الثلاثين سنة الأخيرة بأن الطيور عاجزة تماما عن

    22/12/2009 22239
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day