إثبات معية الله مع خلقه وقربه من عباده
إثبات معية الله مع خلقه وقربه من عباده
ولا يتعارض ما تقدم من علوه على خلقه ما تقرر أيضا من أنه مع خلقه قريب مجيب ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد : 4] ولكن يجب أن نفهم هذه المعية حسب ما فهمها السابقون من أئمة العلم والدين . وسياق الآية وسباقها يدلان على أن معيته مع خلقه معية العلم ، فهو معهم بسمعه وبصره وعلمه وقدرته لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء [1]. اقرأ الآية السابقة من أولها : ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد : 4] . ففي أول الآية أثبت الله استواءه على العرش بعد خلق السموات والأرض ثم في وسطها أثبت إحاطة علمه بالمخلوقات وأثبت معيته معهم ثم بين نوع المعية بقوله : ﴿والله بما تعملون بصير﴾ .
ومثل هذا ما ورد من دعاء النبي ^ حيث يقول :"اللهم أنت الصاحب في السفر ، والخليفة في الأهل"[2] فهو سبحانه مع المسافر في سفره ومع أهله في وطنه ولا يلزم من ذلك أن تكون ذاته مختلطة بذواتهم، كما قال :﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح : 29] أي معه على الإيمان ، لا أن ذاتهم في ذاته بل هم مصاحبون له . وقوله :﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء :146] يدل على موافقتهم في الإيمان وموالاتهم ، وكذلك قوله :﴿وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة : 119] ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [البقرة : 43] . فالله تعالى عالم بعباده وهو معهم أينما كانوا ، وعلمه بهم من لوازم المعية .[3]
وكل النصوص التي تدل على المعية لا تخلو من هذا البيان بوجه ولذلك لما سئل الإمام علي بن المديني – شيخ الإمام البخاري – رحمه الله : ما قول أهل الجماعة ؟ قال : يؤمنون بالرؤية – يعني رؤية الله لأهل الجنة – والكلام – يعني إثبات أن القرآن كلام الله – قال: وأن الله فوق السموات على العرش استوى . فسئل عن قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ فقال : اقرأ ما قبلها: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ واقرأ في آخرها : ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7] .
والله سبحانه مع أنبيائه وأوليائه بالتوفيق والنصر والتأييد كما قال تعالى لموسى وهارون : ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾ [طه : 46] وقال سبحانه : ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾ [النحل : 128] وقال حكاية عن موسى عليه السلام : ﴿كلا إن معي ربي سيهدين﴾ [الشعراء : 62] وقال النبي ^ للصديق إذ هما في الغار: ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾ [التوبة : ] . فهذه المعية أيضا لا تعني أن الله مختلط بذاته في ذوات الأنبياء والأولياء ولكنه معهم بنصره وتأييده وكفايته وحفظه[4].
والعبد يكون في بعض أحواله أقرب إلى ربه من بعضها . يدل على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة t عن النبي ^ :"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"[5].[6]
ولذلك قال الله تعالى: ﴿أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب﴾ [الإسراء : 57].[7]
وإذا عرفت هذا علمت أنه ليس هناك أي تناقض بين إثبات العلو وإثبات المعية لأنه لا يمكن وجود التناقض بين نصوص الكتاب الكريم . وهذا وصف لجميع عقائد أهل السنة ليس فيها أي تناقض وإنما التناقض بين أقوال أهل البدع .[8]
---------------------------------------
[1] هذه المعية تسمى المعية العامة وهي أن الله مع جميع الخلق مسلمهم وكافرهم بعلمه وسمعه وبصره.
[2] صحيح مسلم ، ك الحج ، باب 75 ، ح 1342 عن ابن عمر.
[3] مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5/231-232 ، وراجع: الصفات الإلهية بين السلف والخلف للشيخ عبد الرحمن الوكيل ، دار لينة، دمنهور ، مصر ، ط. الثانية ، 1413هـ/1992م ، ص 129-130.
[4] وهذه تسمى المعية الخاصة لأنها خاصة بأنبياء الله ورسله والصالحين من عباده وهي معية الله معهم بالنصر والتأييد والدفاع عنهم وحمايتهم من كيد أعدائهم .
[5] رواه أحمد (2/421) ومسلم ، ك الصلاة (482/215) والنسائي في التطبيق (1137) عن أبي هريرة .
[6] ولذلك أُمر أن يقول في سجوده (سبحان ربي الأعلى) لأن السجود غاية الخضوع والذل والتواضع من العبد وذلك أنه يضع وجهه - وهو أشرف شيء فيه - على التراب تواضعا لله ، فناسب في غاية سفوله وتواضعه أن يصف ربه بأنه الأعلى راجع : مجموع الفتاوى 5/236-237.
[7] وهذه النصوص قد استغلها من يقول بأن الله في كل مكان من أهل الحلول والمتصوفة وغيرهم وليست لهم حجة في شيء منها بل كل نص يحتجون به فهو حجة عليهم إذا تأمله المنصف العرِيّ من الهوى .
[8] وقد تأول بعضهم نزول الرب تعالى آخر كل ليلة إلى سماء الدنيا بنزول أمره ، فقال له بعض السلف : ومِن عند مَنْ ينزل ؟ يشير بذلك إلى أن القائل لا يؤمن بأن الله في السماء .