الجواب الأول
الجواب الأول: إن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده. وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد، لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره، ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره.
ونظير هذا فى المشاهد أن [الماثل] بين يدى أحد الملوك المشاهد له أشد خوفاً منه من البعيد عنه، بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه، وأنه يطالب من [حقوقه] الخدمة وأَدائها بما لا يطالب به غيره، فهو أحق بالخوف من البعيد.
ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنى أعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، وفهم قوله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم".
وليس المراد به لو عذبهم لتصرف فى ملكه- والمتصرف فى ملكه غير ظالم- كما يظنه كثير من الناس، فإن هذا يتضمن مدحاً، والحديث إنما سيق للمدح [وبيان عظم حق الله على عباده وأنه لو عذبهم لعذبهم بحقه عليهم ولم يكن] بغير استحقاق، فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أَتوا. ولهذا قال بعده: "ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أَعمالهم" يعنى أن رحمته لهم [ليست ثمناً لأعمالهم ولا تبلغ أعمالهم رحمته فرحمته لهم] ليست على قدر أعمالهم، إذ أعمالهم لا تستقل باقتضاء الرحمة، وحقوق عبوديته وشكره التى يستحقها عليهم لم يقوموا بها، فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيباً لحقه، وهو غير ظالم لهم فيه. ولا سيما فإن أعمالهم لا توازى القليل من نعمه عليهم، فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم، فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداءِ حقه الذى ينبغى له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالماً لهم.
فإن قيل: فهم إذا [فعلوا] مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغى له مقدوراً لهم. فكيف يحسن العذاب عليه؟ قيل: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن المقدور للعبد لا يأْتى به كله، بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان. وأيضاً ففى نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامة لله فيها، بحيث يبذل مقدوره كله فى تحسينها وتكميلها ظاهراً وباطناً، فالتقصير لازم فى حال الترك وفى حال الفعل، ولهذا سأل الصديق النبى، دعاءً يدعو به فى صلاته، فقال له: "قل: اللَّهم إنى ظلمت نفسى ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لى مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم"، فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكداً له بأن المقتضية ثبوت الخبر وتحققه، ثم أكده بالمصدر النافى للتجوز والاستعارة، ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره، ثم قال: "فاغفر لى مغفرة من عندك"، أى لا ينالها عملى ولا سعيى بل عملى يقصر عنها، وإنما هى من فضلك وإحسانك، لا بكسبى ولا باستغفارى وتوبتى. ثم قال: "وارحمنى" أى ليس معولى إلا على مجرد رحمتك، فإن رحمتى وإلا فالهلاك لازم لى فليتدبر اللبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية، وفى ضمنه: إنه لو عذبتنى لعدلت فى ولم يتظلمنى، وإنى لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لن ينجى أحداً منكم عمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدنى الله برحمة منه وفضل"، فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة، فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئاً من حقه ولا ظلمه، فإنه ليس معه ما يقتضى نجاته، وعمله ليس وافياً بشكر القليل من نعمه، فهل يكون ظالماً له لو عذبه؟ وهل تكون رحمته له جزاءً لعمله، ويكون العمل ثمناً لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغى له من بذل النصيحة فيه، وكمال العبودية من الحياءِ والمراقبة، والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدى الله فى العمل له؟ ومن علم هذا علم السر فى كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار، ففى صحيح مسلم عن ثوبان قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثاً. وقال: اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17- 18]، فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل. قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله.
وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة فى الحج فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتوضيء أن يختم وضوءَه بالتوحيد والاستغفار فيقول: "أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، اللَّهمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِين وَاجْعَلْنِى مِنَ الْمُتَطَهِّرِين"، فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر، وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته، وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلاً.