"الوحي" بالمعنى الاسمي لا المصدري
وأما المعنى الثاني فهو "الوحي" بالمعنى الاسمي لا المصدري،
أي بما هو اسم من أسماء القرآن، وصفة من صفاته الجوهرية الثابتة. وهو معنى متولد من المعنى الأول؛ فلأن القرآن نزل وحيا من الله؛
صارت له تلك الصفة فسُمي: "وَحْياً"، وأصبح هذا اللفظ اسماً عَلَماً على كتاب الله تعالى. فلك أنت تقول: القرآن هو الوحي،
والوحي هو القرآن. والآيات المذكورة قبلُ دالة على هذا.
قال الإمام الطبري رحمه الله: (أما "الوَحْيُ"، فهو: الواقع من الْمُوحِي إلى الْمُوحَى إليه، ولذلك سَمَّتِ العربُ الْخَطَّ والكِتَابَ "وَحْياً"؛
لأنه واقعٌ فيما كُتِبَ، ثَابِتٌ فيه.)
( الحديث رواه ابن حبان في صحيحه. وقال الشيخ الألباني: إسناده جيد، وحسنه في صحيح الترغيب.)
وعلى هذا جرت معاجم اللغة. قال صاحب الصحاح: (الْوَحْيُ: الكتابُ، وجمعه وُحِيٌّ.
والوَحْيُ أيضاً: الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفيُّ، وكلُّ ما ألقيته إلى غيرك.
يقال: وَحَيْتُ إليه الكلامَ وأوْحَيْتُ، وهو: أن تكلِّمه بكلامٍ تخفيه.)
الحديث، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وحسنه الألباني في الصحيحة وفي صحيح الترمذي وصحيح الجامع الصغير.
وفي اللسان: (والوَحْيُ: المكتوبُ، والكِتَابُ أَيضاً. وعلى ذلك جمعوا فقالوا: وُحِيٌّ، مِثْلُ حَلْيٍ وحُلِيٍّ.)
( سير أعلام النبلاء للذهبي: 3/342.)
وقد يقول قائل هذه حقائق بَدَهِيَّةٌ فَلِمَ العَنَاءُ؟ أقول: نعم؛ ولكننا ننساها فنضل الطريق إلى القرآن!..
وإنما مشكلة أجيالنا المعاصرة أنها أضاعت بَدَهِيَّاتِهَا! حتى صرنا في حاجة إلى إعادة تقرير معنى "الدين" نفسه!
( ن. تفسير الطبري للآية: 104 من سورة المؤمنون.)
نعم! إن تَلَقِّي القرآن بوصفه "وَحْياً" هو المفتاح الأساس لاكتشاف كنوزه الروحية، والتخلق بحقائقه الإيمانية العظمى!
النور.. تلك هي طبيعة الوحي وصِبْغَتُهُ، وصفته الثابتة للقرآن، حقيقة جوهرية لا تنفك عنه.. والنور روحٌ،
لكنه روحٌ يسري في كلمات القرآن بخفاء، وإنما المؤمنون وحدهم يبصرون جداوله الرقراقة، وهي تتدفق بالجمال والجلال!
ولكن كيف يكون هذا؟
لنعد إلى مثال النجم المذنَّب!.. إن ذلك النَّيْزَكَ الناري الواقع من السماء إلى الأرض، ما يزال يحتفظ بأسرار العالم الخارجي الذي قَدِمَ منه!
إنه فِهْرِسْتٌ مكنون، لو تدبرته لوجدته يكتنـز خريطةَ الكون كله! ويحتفظ من الأسرار ما عجزت عن إدراكه أحدث مراصد الفلك،
وأعقد معادلات الرياضيات، وأحدث نظريات الفيزياء!.. إنه لم يفقد حرارته ولا طاقته قط!
وإنما حُجِبَ لهيبُه رحمةً بالناس، وتيسيراً لهم، وتشجيعا للسائرين في الظلمات على حمل قنديله الوهاج،
والقبض عليه بأصابع غير مرتعشة، بل على احتضانه وضمه إلى القلب، نوراً متوهجاً بين الجوانح!
إن مَثَلَ القرآن ومَثَلَ الناس في هذا الزمان، هو كثلاثة مسافرين تَاهُوا في الصحراء بليل مظلم! صحارى وظلمات لا أول لها ولا آخر..!
فبينما هم كذلك إذ شاهدوا في السماء نجماً مُذَنَّباً لاَهِباً، لم يزل يخرق ظلمات الأفق بنوره العظيم، حتى ارتطم بالأرض!
فافترقوا ثلاثتهم إزاءه على ثلاثة مواقف:
فأما أحدهما فلم يُعِرْ لتلك الظاهرة اهتماماً، بل رآها مجرد حركة من حركات الطبيعة العشوائية! وأما الآخران
فقد هرعا إلى موقع النَّيْزَكِ فالتقطا أحجارة المتناثرة هنا وهناك.. وكانا في تعاملهما مع تلك الأحجار الكريمة على مذهبين:
فأما أحدهما فقد أُعْجِبَ بالحجر؛ لِمَا وجد فيه من جمال وألوان ذات بريق، وقال في نفسه:
لعله يستأنس به في وحشة هذه الطريق المظلمة، ثم دسه في جرابه وانتهى الأمر!
وأما الآخر فقد انبهر كصديقه بجمال الحجر الغريب! وجعل يقلبه في يده، ويقول في نفسه: لا بد أن يكون هذا المعدن النفيس القادم من عالم الغيب يحمل سِرّاً! لا يجوز أن يكون وقوعه على الأرض بهذه الصورة الرهيبة عبثاً! كلاَّ كلاَّ! لا بد أن في الأمر حكمةً ما! ثم جعل يفرك حجراً منه بحجر، حتى تطاير من بين معادنه الشَّرَر..! وانبهر الرجل لذلك؛ فازداد فركاً للحجر، فازداد بذلك تَوَهُّجُ الشَّرَرِ..
وجعلت حرارة معدنه تشتد شيئاً فشيئاً؛ حتى وجد ألم ذلك بين كفيه! بل جعلت الحرارة الشديدة تسري بكل أطراف جسمه، وجعل الألم يعتصر قلبَه، ويرفع من وتيرة نبضه..! لكنه صبر وصابر، فقد كان قلبه - رغم الإحساس بالألم والمعاناة - يشعر بسعادة
غامرة، ولذة روحية لا توصف!.. وما هي إلا لحظات حتى تحول الحجر الكريم بين يديه إلى مشكاة من نور عظيم!
ثم امتد النور منها إلى ذاته، حتى صار كل جسمه سَبِيكَةً من نور، وكأنه ثريا حطت سُرُجَهَا ومصابيحَها على الأرض! وجعل شعاع النور يفيض من قلبه الملتهب فيعلو في الفضاء، ويعلو، ثم يعلو، حتى اتصل بالسماء!..
كان الرجل يتتبع ببصره المبهور حبل النور المتصاعد من ذاته نحو السماء، حتى إذا اتصل بالأفق الأعلى تراءت له خارطة الطريق في الصحراء! واضحة جلية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك! ووقع في قلبه من الفرح الشديد
ما جعله يصرخ وينادي صاحبيه معاً: أخويَّ العزيزين!.. هَلُمَّا إِليَّ!.. إِليَّ! لقد وجدت خارطة الطريق!.. لقد من الله علينا بالفرج..! أخويَّ العزيزين!.. اُنْظُرَا اُنْظُرَا!.. هذا مسلك الخروج من الظلمات إلى النور! شَاهِدُوا شُعَاعَ النورِ المتدفق من السماء..
إنه يشير بوضوح إلى قبلة النجاة!.. فالنجاةَ النجاةَ!
أما الذي احتفظ بقطعة من الحجر في جرابه فلم يتردد في اتباع صاحبه والاقتداء بهديه؛ لأنه كان يؤمن بأن لهذا المعدن الكريم سِراًّ!
ولقد أبصر شعاعه ببصيرة صاحبه، لا ببصيرة نفسه!
وأما الأول الذي لم ير في النجم الواقع على الأرض شيئا ذا بال؛ فإنه رغم نداء صاحبه له لم يبصر شيئاً
من أمر الشعاع المتدفق بالهدى! لقد كان محجوبا باعتقاده الفاسد، فلم تَعْكِسْ مِرْآةُ قلبِه الصَّدِئَةُ نوراً! ولذلك لم يصدق من
نداء صاحب النور شيئاً من كلامه، بل اتهمه بالجنون والهذيان! ومضى وحده يخبط في الصحراء، ضارباً في تيه الظلمات!
(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ!)
(النور: 40)
ثم انطلق الرجلان المهتديان يسيران في طريق النور.. وإنما هما تابع ومتبوع، فالمتبوع داعية يرى بنور الله.. ويسير على بصيرة من ربه؛
بما كابد من نار الحجر وشاهد من نوره! والثاني مؤمن بالنور مصدق بدعوة صاحبه، يسير على خطاه وهديه..
ولكنه يكابد في سيره عثرات من حين لآخر وهَنَاتٍ؛ وذلك بسبب ما يلقي إليه الشيطان من وساوس ومخاوف!
وليس لديه ما يدفع به كيد الشيطان إلا ما يتلقى عن صاحبه!
وبينما هما كذلك يسيران مطمئنين في طريقهما، إذْ سأل الرجلُ التابعُ صاحبَه المتبوع فقال:
أناشدك الله أن تخبرني كيف اكتشفت سر النور في هذا الحجر الكريم!
لكن صاحب النور وجد أن اللغة عاجزة عن بيان حقيقة النور لصاحبه، فما كان منه إلا أن دس قطعة من
الحجر الذي كان بين يديه في كف السائل؛ فصرخ الرجل من شدة حر الحجر الكريم والتهابه! وجعل يقلبه بين يديه ثم ألقاه بسرعة في كفه صاحبه! لكن صاحب النور قبض عليه بيد ثابتة مطمئنة! فعجب منه رفيقه وقال: إنما أنت قابض على الجمر!
قال: نعم، هو كذلك! إنه القبض على الجمر! لكن لذة الروح بما يشاهد القلب من نور، وبما يجد من سعادة غامرة؛
ترفع عن الجسد الشعور بالألم، وتمنع حدوث الاحتراق! وإن نار الشوق والإيمان لهي أقوى ألف مرة ومرة من نار الكفر والفسوق والعصيان!
ولو وقعت الأولى على الثانية؛ لجعلتها سلاماً وأماناً على قلب العبد المؤمن!
(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ! قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ! وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ!)
(الأنبياء: 68- 70)
نعم يا رفيقي في طريق النور! إن مكابدة القرآن في زمان الفتن، والصبر على جمره اللاَّهِبِ في ظلمات المحن؛ تلقيّاً، وتزكيةً، وتدارساً،
وسيراً به إلى الله في خلوات الليل؛ هو وحده الكفيل بإشعال مشكاته، واكتشاف أسرار وحيه، والارتواء من جداول روحه،
والتطهر بشلال نوره.. النور المتدفق بالحياة على قلوب المحبين، فيضاً ربانيا نازلاً من هناك، من عند الرحمن، الملك الكريم الوهاب!
فتدبر يا صاح هذا المشهد القرآني الجليل! في بيان حقيقة تَلَقِّي محمد - صلى الله عليه وسلم -
للوحي عن الملَك العظيم جبريل عليه السلام، حيث تلقَّى عنه ما تلقَّى من قرآن كريم، وحياً من الله رب العرش العظيم،
وشاهدَ ما شاهدَ خِلاَلَ ذلك من حقائق إيمانية، ومنازل روحانية، ضاربة في عمق الغيب الأعلى!
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى* وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى* ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى* فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى* فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى* مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى* أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى* وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى* عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى.)
(النجم: 1- 18)
ذلك هو القرآن الوحي! إنه حجر كريم، بل إنه نجم عظيم وقع على الأرض! ولم يزل معدنه النفيس يشتعل بين يدي كل من فركه بقلبه،
وكابده بروحه، تخلقاً وتحققاً! حتى يرتفع شعاعُه عاليا، عاليا في السماء، دالا على مصدره وأصله،
هناك بموقعه الأعلى في مقام اللوح المحفوظ! ومشيراً مِنْ عَلُ ببرقه العظيم إلى باب الخروج..! فهنيئاً لمن تمسك بحبله،
واتصل قلبُه بتياره، وتزود من رقراق أسراره، ثم مشى على الأرض في أمان أنواره!
نعم! ذلك هو القرآن الوحي، الذي يصل قارئَه وَحْياً بملأ السماء مباشرةً.. من أول كلمة يقرؤها! فإذا به يطل على عالم الشهادة من شرفات عالم الغيب! بصائر قرآنية واضحة ومشاهدات، لا يضام في حقائقها شيئاً! بصائر ومشاهدات لا تلبيس فيها ولا تدليس،
ولا خرافة ولا تخرصات! وإنما هو نور الفرقان! قال جل جلاله:
(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ!)
(الأنعام: 104)
وقال سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ!)
(الأنفال: 29)
نعم! ذلك هو القرآن الوحي!.. فمن يفرك جمره؟ ومن يقتبس من حر آياته نورَه؟ فعسى أن يترقى في معراجه إلى مقام الروح الأعلى! وعساه يكون بذلك من المبصرين؛ فيشاهد خارطة الطريق..!
أيها القابضون على الجمر..!
أيها المراقبون لنيزك السماء..!
إنه وَحْيٌ.. فَتَعَرَّضُوا لَهُ!
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ!)
(آل عمران:200)