وسنن الله نوعان: كونية وشرعية
فسنة الله الكونية أن يخرج بأمره سبحانه النور من الشمس، ويخرج الثمر من الشجر، ويخرج الولد من الرحم، والماء من السحب، والكلام من اللسان، والحليب من البقر، والعسل من النحل وهكذا، فهو سبحانه الخالق وما سواه مخلوق، وقدرته مخفية وراء الأسباب: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} [الزمر: 62].
وسنة الله الشرعية أن من آمن وعمل صالحاً أدخله الله الجنة، ومن كفر أدخله الله النار، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، ومن أطاع الله ورسوله سعد في الدنيا والآخرة، ومن عصى الله ورسوله شقي في الدنيا والآخرة.
والله عزَّ وجلَّ خلق الكون بقدرته، ونظمه وسيره بسننه الكونية والشرعية، فتعودنا على السنن الجارية، وغفلنا عن قدرة الله المطلقة، وقدرته سبحانه فوق سنته، ومن قدرته سبحانه يستفيد المؤمنون خاصة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)} ... [الأعراف: 96].
وكل ما خلقه الله في هذا الكون من كبير وصغير، وناطق وصامت، وكل متحرك وساكن، وكل معلوم ومجهول، وكل حاضر وغائب، خلقه الله بقدر يحدد حقيقته، ويحدد صفته، ويحدد وظيفته، ويحدد مقداره، ويحدد زمانه، ويحدد مكانه كما قال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} [القمر: 49]
وفوق هذا التقدير قدرة الله المطلقة، التي يفعل بها ما يشاء في ملكه، والتي تفعل أعظم الأحداث بأيسر أمر كما قال سبحانه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر: 50].
فهي كلمة واحدة من الله يتم بها كل أمر، الصغير والكبير على حد سواء، واحدة تنشئ هذا الوجود العظيم، وواحدة تبدل وتغير فيه، وواحدة تذهب به كما يشاء الله، وواحدة ترده إلى الموت، وواحدة تبعثه في صورة من الصور، وواحدة تبعث الخلائق جميعاً، وواحدة تجمعهم ليوم الحشر والحساب: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} [لقمان: 28].
وسنة الله جارية أن الإنسان إذا تأثر بالشيء جعل الله هذا الشيء فوق رأسه، وسلطه عليه وأذله به، وإذا تأثر بخالق الشيء سبحانه ولم يتأثر بالشيء، فإن الله يسخر هذا الشيء للمسلم كما سخر النار لإبراهيم، والبحر لموسى، والماء لنوح، والريح لهود، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وكثير من الناس تأثر بقوة المخلوق، ولم يتأثر بقوة الله، وذلك لضعف الإيمان واليقين، فحُرم من الاستفادة من خزائن الله، ومن قدرة الله.
والله جل جلاله عنده قوة المخلوقات كالرياح والعواصف، والصواعق والزلازل، والمياه والجبال، والخسوف والبراكين، والناس عندهم قوة المصنوعات كالصواريخ والمدافع والقنابل، وقوة المخلوقات أعظم من قوة المصنوعات، فكيف بقوة الله التي لا يقف لها شيء، ولا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)} [الحج: 40].
والله قوي عزيز، يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويغير ما يشاء، يأتي بالفرج بعد الضيق .. وباليسر بعد العسر .. وبالأمن بعد الخوف .. وبالبسط بعد القبض .. وبالعافية بعد المرض .. وبالليل بعد النهار .. وبالحر بعد البرد .. وبالغنى بعد الفقر .. كل يوم هو في شأن: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)} [السجدة: 5].
وفي غزوة بدر من السنة الثانية للهجرة أراد الله عزَّ وجلَّ أن يظهر قدرته للمؤمنين، ويعلمهم كيف يستفيدون من قدرته بواسطة الإيمان والأعمال الصالحة، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، والتقوا بكفار قريش وصناديدهم في بدر، ووقف القليل أمام الكثير، وأولياء الرحمن أمام أولياء الشيطان، وأهل الحق أمام أهل الباطل، فاستغاث النبي - صلى الله عليه وسلم - بربه، وعرض عليه حاله، وحال أصحابه، وحال أعدائه، فأجاب دعاءه، وأمدهم بالملائكة، وكان يكفيهم لهزيمة الكفار ملك واحد كجبريل الذي له ستمائة جناح، جناح منها يسد الافق، والذي رفع قرى قوم لوط إلى السماء ثم قلبها عليهم، ولكن لشدة فرح الله باجتماع المؤمنين لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه، أمدهم بألف من الملائكة كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)} [الأنفال: 9].
ثم أمدهم بثلاثة آلاف، ثم بخمسة آلاف كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)} [آل عمران: 123 - 125].
ثم بين الله للمؤمنين أن هذا المدد العظيم من الملائكة بشرى للمؤمنين لتطمئن قلوبهم، مذكراً لهم أن النصر حقاً من الله وحده كما قال سبحانه: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)} [آل عمران: 126].
وهكذا أظهر الله قدرته، ونصر أولياءه، والذي نصر المؤمنين هناك تكفل بنصر المؤمنين في كل زمان وفي كل مكان كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)} [الروم: 47].
فمتى يستفيد المسلمون من قدره الله، ومن سنة الله في نصر أوليائه؟.
والله قوي عزيز، وكل قوة في العالم من قوته، وكل عز في العالم من عزته: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)} ... [يونس: 65].
وهو سبحانه الملك الذي له ملك السموات والأرض، فالسموات وما فيها له، والأرض ومن فيها له، وكل رزق في العالم من رزقه، وكل علم في العالم من علمه، وكل رحمة في العالم من رحمته، وكل شيء بيده، وكل شيء لا يخرج إلا من خزائنه كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)} [الحجر: 21].
وخزائن الله واسعة مملوءة بكل ما تحتاجه الخلائق إلى يوم القيامة، وكل ما تمتع به البشرية من الأموال والأرزاق والنعم لا يساوي ذرة مما في خزائن الله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)} [المنافقون: 7].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:
«قال: يَا عِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً، فَلا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شيئاً.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شيئاً يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).
فيا من كلَّما زاد عمره زاد إثمه، ويا من كلما كثرت أوزاره قل استغفاره، ويا من لا يروعه ما يراه ويسمعه متى تفيق؟ ومتى تقف بباب مولاك العزيز الغفور الرحيم؟.
إن قوة الناس لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة المخلوقات التي خلقها الله كالسموات والارض والجبال، وقوة المخلوقات كلها لا تساوي ذرة بالنسبة لقوة الله، وقوة الناس وقوة المخلوقات كلها بيد الله وفي قبضة الله، يعز بها من يشاء، ويذل بها من يشاء، ويهلك بها من يشاء، والله بكل شيء عليم.
وبسبب ضعف الإيمان واليقين أصابتنا ثلاث آفات:
الأولى: أننا تأثرنا من قوة المخلوق، فأصبحنا نخافه ونرجوه، فأذلنا الله به.
الثانية: أننا كل يوم نطرق باب المخلوق مع أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً.
الثالثة: أننا أعرضنا عن الخالق القادر المالك لكل شيء، فلا نرجوه ولا نخافه، ولا نقف ببابه، ولا نستقيم على أوامره.
فكيف نستفيد من قدرته، وكيف نستفيد من خزائنه وهذه أحوالنا؟.
إن ذلك لا يُنال إلا بكمال الإيمان والتقوى.