الثبات أمام الأعداء حتى النصر أو الشهادة
الشيخ / خالد بن عثمان السبت
* الثالث عشر: من الأمور التي يورثها اليقين: الثبات أمام الأعداء حتى النصر أو الشهادة: وأخبار أهل اليقين في هذه الأمة كثيرة جدًّا، وهكذا أهل اليقين الذين كانواْ من قبلنا، وتعرفون جميعاً خبر الغلام مع الملك وثباته العظيم الذي ثبته، وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، حينما ثبت أمامهم، وقد توعدوه بالإحراق، بل وأوقدواْ ناراً عظيمة أمامه وطالبوه أن يرجع عن دينه، فلما أبى؛ ألقوه فيها، وهو لم يتردد إطلاقاً، ولا طرفة عين، وهكذا موسى صلى الله عليه وسلم، ثبت أمام فرعون ثباتاً عظيماً مع أنه معروف بطغيانه واستعباده للناس، وكان يقول لهم:
" أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[24] "
. وكان موسى صلى الله عليه وسلم، يقول له:
" وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا[102] "
. فلما أمره الله عز وجلّ بالانطلاق في بني إسرائيل، ولم يجد إلا البحر أمامه، وتردد من تردد ممن كان معه، وقالوا:
" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[61] "
. قال بكل ثبات:
" قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[62]"
. فأمره الله عز وجلّ بأن يضرب البحر بعصاه، فضربه، فانفلق، فكان كل فوق كالطود العظيم.
ومن أخبار القادة المسلمين الذين كانوا يتحلون باليقين، وكان لهم عجائب، وغرائب بسبب ذلك: القائد المجاهد، الزاهد، أبو عبد الله مردنيش، قَاتَل الكفار من الرومان، واستطاع أن يُحرز غنائم هائلة، ثم بعد ذلك كان مع طائفة من أصحابه لا يزيدون عن ثلاثمائة، وهو قائد كبير، فأحاط به من الرومان أكثر من ألف، فلما نظر إليهم قال لأصحابه: ما ترون؟ قالواْ نترك الغنيمة، وننطلق فينشغلواْ بها عنا، فقال: ولكن القائل يقول:
" إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ...[65] "
. ألم يقل القائل ذلك؟؟-وظنوا أنه لم يعرف من قال ذلك- فقال بعضهم: هذا قاله الله عز وجلّ! فقال: إذا كان الله قال ذلك، فكيف تقعدون عن لقائهم؟! فثبتواْ أمامهم، فهو يعرف القائل، ولكنه كان يريد أن يختبرهم، وقاتلوهم حتى هزموهم، وفروا من مواجهتهم .[نزهة الفضلاء 1545].
وانظر خبر شيخ الإسلام رحمه الله وهو خبر مشهور مع التتار: فإن التتار لما زحفوا من المشرق، أغاروا على بخارى، وسمرقند، وخراسان ثم قتلواْ في بغداد أكثر من مليوني إنسان من المسلمين، وما تركوا إلا أهل الذمة من اليهود والنصارى، وقتلوا في خراسان، وسمرقند، وبخارى، وغيرها من تلك الأمصار خلقاً عظيماً، بل ربما حصدوا جيشاً بكامله، وضعواْ لهم كميناً وعددهم يقارب السبعين ألفاً؛ فحصدوهم في مكان واحد، وكانواْ يدخلون البلد يُخرجون النساء على حِدَة، والأطفال على حِدة، والرجال على حِدَة، ثم بعد ذلك يقتلونهم واحداً بعد الآخر، ولما قدمواْ بغداد فعلوا فيها الأفاعيل مما يندي له الجبين، فلما زحفوا إلى الشام، أصاب الناس رعبٌ شديدٌ منهم حتى إنهم كانوا في بغداد يدخل الرجل منهم في سرداب، ويكون فيه زهاء مائة نفس، فيقتلهم واحداً بعد الآخر لا يمد إنسان منهم يده إليه! بل وربما جاء فارس منهم ووجد عشرات المسلمين وليس معه سيف ولا سلاح، فقال لهم: مكانكم حتى يذهب، ويأتي بالسيف، ولم يتحرك أحد منهم من مكانه! بل وربما وضع رأس رجل على حجر وليس معه شئ يقتله به، ثم ينطلق ويأتي بسكين وهذا الرجل لم يحرك رأسه من الحجر لشدة الخوف والهلع الذي أصاب الناس.
فلما زحف على أرض الشام، وقبل أن يصلها؛ فرّ منها الفقراء، وتهيأ التجار للفرار إلى أرض مصر، فكاتب شيخ الإسلام السلاطين في مصر، وحثهم على الجهاد، وحرّض أهل الشام، وحثهم على البقاء، وصَفَّ الصفوف، وعبأ الجيش أمام هؤلاء التتر، والناس أصابهم رعب شديد منهم، ولمّا رأى شيخ الإسلام حال الناس، وثقتهم بالله عز وجلّ؛ أقسم لهم أيماناً أنهم سينتصرون في هذه المعركة، فكان الرجل يقول له: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون، والله إنكم منصورون. وكان ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله أنهم انتصروا في هذه المعركة، فكان ذلك سبباً لانكسار التتار، فَهُزِمُوا بعدها في وقائع، ودخل طوائف الإسلام، فصاروا يجاهدون في سبيل الله عز وجلّ، وذهب شيخ الإسلام إلى كبيرهم، وأغلظ له القول، وتهدده، وتوعده، وزجره، ورماه بالكفر، وأنه على دين جده من الوثنين والكفار، ونهاه عن أموال المسلمين، وعن دمائهم، وتكلم له بكلام غريب، حتى إن الوفد من الفقهاء والقضاة الذين ذهبوا مع شيخ الإسلام كانوا يُشمِّرون ثيابهم لا يصيبهم دم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فما كانواْ يشكون أن رأسه سيطير أمامهم؛ لأن هؤلاء التتار كان فيهم من البطش، والكبرياء، والصلف شئ لا يقادر قدره، فلما انصرفوا من عنده؛ قالوا لشيخ الإسلام: ماذا صنعت؟ كدت تذهب بنفوسنا معك، ثم قالوا والله لا نصحبك بعد اليوم، فذهبوا من طريق آخر، وذهب من طريق، فتعرض لهم بعض قطاع الطرق؛ فسرقوا كل ما معهم من متاع، وقد لبسوا أحسن الثياب، فسُرِقت، وسُرِقت دوابهم، حتى جُرِّدُواْ من ملابسهم، ورجعوا إلى البلد بهذه الحال.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية، فتبعه الأمراء من التتار، وكثير من الجنود، وما دخل البلد إلا ومعه موكب حافل من القادة والجند، يطلبون منه الدعاء، ويتبركون بدعائه رحمه الله، فانظر كيف صنع اليقين لشيخ الإسلام رحمه الله.