الإشراق الرابع: في جمالية منازل العبادة
تمهيد في معنى (المنازل) و (الأحوال).
من جماليات الدين أن العبد السالك إلى ربه متنقل في عبادته بين (منازل)، أو (مقامات)، ومتلذذ في (مواجيده) (بأحوال). وهذه العبارات وإن كانت من اصطلاحات المتصوفة؛ فإن معانيها ومفاهيمها من أصول الدين في الإسلام. إلا أن لنا قبل البدء في التفصيل كلمةً نقولها ههنا. وذلك أن الناس في التصوف بين مُفْرِطٍ مُفْرِطٍ، وبين مُسْرِفٍ وغَالٍ. وقلما تجد الاعتدال! والحق في كل الأمور أوسطها.
ولذا كانت المنازل أو المقامات مراتب، إذا حصل عليها العبد وجب أن يحافظ عليها؛ لأنها مستوى معين من التدين، والفهم للدين، والقرب من الله، لا يجمل به أن يتراجع عنه. فهو إذن ثابت. فإذا انتقل العبد إلى غيره من المنازل اصطحب معه كل ما اكتسبه في المنزل الأول من الخبرات؛ لأن المنازل لا ينسخ بعضها بعضاً. بينما الأحوال لا تستقر، وينسخ بعضها بعضاً. إذ هي مما يطرق نفس الإنسان بشكل لا إرادي ولا شعوري
(فالأحوال): جمع حال، وهي ما يجده العبد في سيره إلى الله من أذواق للعبادة، تختلف من لحظة إلى أخرى، ذات لذات ومواجيد متفاوتة، مما ينشطه في سيره، ويحدو به إلى ربه، ويزيد شوقه إلى مولاه اتقاداً. فالأحوال: أوضاع نفسية للمؤمن لا تستقر على أمر. بل هي متقلبة به بين نشاط وفتور، وبين قبض وبسط.
المشهد الأول في جمالية التوبة .
إن التوبة يا سادتي هي شلال الجمال المتدفق من كوثر الرحمن، الفواح بأريج عطاء الله وكرمه.. التوبة هي وضوء النفس وطهورها. تماماً كما أن للأعضاء البدنية وضوءها وطهورها.. فأن تتوب إلى الله يعني أنك تتطهر، وأنك تجرد نفسك من خبائثها تجريداً. إن التوبة تجمع كل منازل (التهذيب والتصفية)، وترتقي بصاحبها عبر الأمواج الدافقة نحو السماء. إنها جمال الطهور المفضي إلى بحر المحبة الإلهي! قال جل جماله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (البقرة:222). وبذلك كان يدعو سيد المحبين محمد صلى الله عليه وسلم إثر الوضوء: (اللهم أجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) فقرن بذلك بين طهورين في سياق واحد: طهور النفس، وطهور البدن.. فعليك السلام يا محمد عليك السلام!
التوبة: هي أول باب يلجه السالك في مسرى المحبة الدائم الأخضرار
والتوبة بهذا المعنى توبتان: توبة العبد الآبق الشارد عن باب الله، وتوبة العبد السالك إلى الله.
والتوبة بجميع معانيها من أبهى منازل العبادة في الإسلام.. إنها خضرة الأمل الممتدة في أفق السير إلى الله، المتصلة بمنازل الرجاء، والمحبة، والشوق، والأنس بالله.. ظلال من النور البهي تظلل العبد أبداً وهو يتنقل من منزل إلى منزل، ويسبح من فلك إلى فلك؛ وهو يمضي صعداً في اتجاه السماء، عبر مدارج المحبين.
فالتوبة توحيد: ذلك أن العبد العائد إلى الله تائباً، هو عائد إلى الله أولاً، ثم هو عائد إلى الله وحده. وفي ذلك ما فيه من اعتقاد أن الله هو وحده سبحانه التواب الرحيم؛ إذ لا ملجأ منه إلا إليه. وذلك توحيده سبحانه في إلهيته، وربوبيته، وأسمائه وصفاته تعالى؛ ولذلك كثيراً ما ذكرت التوبة والاستغفار في سياق التوحيد.