اِحْذَرِ الْكَذِبَ فإنَّه مَرَضٌ خَطِيرٌ!
الشيخ فريد الانصاري
والكذب - أعاذنا الله وإياكم منه - من أسوأ آفات اللسان! والمؤمن لا يكذب! أما الداعية أو الحامل لمشروع التجديد الديني فإنه إن كذب فقد خان رسالته! وقضية الصدق والكذب هي قضية "وَلاَءٍ وبَرَاءٍ" في المجال الدعوي، لا تقبل المساومة!(1 ) ويكفينا في ذلك نذارةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاصلة الحاسمة! حيث إنه توعد الكاذب بالويل المؤكَّد! ولو كان كذبه من باب إضحاك الناس والترفيه عنهم! قال عليه الصلاة والسلام: (وَيْلٌ للذي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ! وَيْلٌ لَهُ! وَيْلٌ لَه!)( 2) وقد نقلت عائشة - رضي الله عنها - موقفه الشديد من الكذب، فقالت: (كَانَ أبْغَضُ الخُلُقِ إليهِ الكَذِبَ!)( 3)
ولا وصولَ إلى الله - جلَّ جلالُه - ولا طريقَ إلى نيل رضاه إلا بالصدق. الصدق على كل حال، والصدق في كل شيء! بحيث لا يَصْدُرُ المؤمنُ في كل شأنه، كبيره وصغيره، إلا عن الصدق! قولا وفعلا، عسى أن يكون في نهاية المطاف من الصِّدِّيقِينَ! فالصِّدِّيقِيَّةُ لا تُنال بكثرة الأعمال عدداً، وإنما تنال بعمقها صدقاً، وبصفائها وِرْداً، وبإخلاصها قصداً. وذلك هو الصدق مع الله جل ثناؤه. ومن لم يصدق مع الناس لم يصدق مع الله! والعكس صحيح. فالصدقُ عُمْلَةٌ واحدةٌ، مَنْ غَشَّهَا أو دَلَّسَهَا غَشَّ في كُلِّ شيءٍ، ودَلَّسَ في كُلِّ شَيْءٍ! ولا مسلك إلى الله بغير هذا!
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ! فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا! وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ! وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا!)
ولنا أن نختم هذه الالتزامات بحديث نبوي عجيب، هو عبارة عن رحلة روحية - مأذونة من لدن الرحمن - في ملكوت الغيب! صُحْبَةَ الملَكَيْنِ: جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام. وذلك خلال رؤيا نبوية، ولا تكون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم إلا حقا، بل لا تكون إلا وحيا من الله جل جلاله، وحقيقةً نبوية قطعية! رؤيا كانت عبارة عن مشاهدات ذات جلال وجمال، وسياحة في ملكوت أخروي عجيب، من مشاهد العذاب ومنازل النعيم. كلُّها عِبَرٌ وحِكَمٌ ترجع على ما ذكرنا من التزامات بالترغيب والترهيب! ذِكْرًى
(لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ!)
فَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ – رضي الله عنه - أنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى: إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ الْكَلُّوبَ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ! وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا! فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ! قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ! فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ! فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلاَ يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ! قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ انْطَلِقْ! فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا! فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا! فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا! وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ! فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالاَ انْطَلِقْ! فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ، وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ! فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ! فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالاَ: انْطَلِقْ!
فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا! فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ. ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ! فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ.
قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ! قَالاَ: نَعَمْ.
أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ! يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ! فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ! يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ! وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ! وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا! وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَم، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ فَأَوْلَادُ النَّاسِ. وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ. وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ. وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ. فَارْفَعْ رَأْسَكَ! فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ، قَالاَ: ذَاكَ مَنْزِلُكَ! قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي! قَالاَ: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ!)( 5)
بصيرة في شرط الوصول
وعليه؛ فإنَّه لاَ وُصُولَ ولاَ قَبولَ في كل ذلك جميعا إلا بِشَرْطٍ أسَاسٍ، ألا وهو: مجاهدة النفس؛ للتحقق في كُلِّ مَسْلَكٍ من إخلاص القلب! وللتحقق في كل كلمة من صدق اللسان!
ذلك، وإنما الموفَّقُ مَنْ وفَّقه اللهُ، هو وحده تعالى المستعان، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المراجع
- لا نقصد بذلك "الولاء والبراء" بالمعنى العقدي الصرف، ولكننا نقصد ولاء الثقة والتواصل أو عدمهما، في مجال العمل الإسلامي.
- أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم، عن معاوية بن حيدة مرفوعا. وحسنه الألباني، حديث رقم : 7136 في صحيح الجامع.
- أخرجه البيهقي عن عائشة. وصححه الألباني. حديث رقم : 4618 في صحيح الجامع.
- متفق عليه.
- متفق عليه.