الاعتبار بمن سبق
قال أبو عمرو:
أيها الناس، تقوموا بهذه النعم - التي أصبحتم فيها - على الهرب من
{نَارُ ٱللَّهِ ٱلْمُوقَدَةُ ٱلَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى ٱلْأَفْـِٔدَةِ}
[الهمزة 6- 7].
فإنكم في دار الثَّواء (1) فيها قليل، وأنتم فيها مرتحلون، خلائف بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفسها وزهرتها.
فهم كانوا أطول منكم أعماراً، وأمدَّ أجساماً، وأعظم آثاراً، فجدَّدوا الجيال (2)، وجابو الصخور (3)، ونقبوا في البلاد (4)، مؤيَّدين ببطش شديد، وأجساد كالعماد.
فما لبث الأيام والليالي أن طَوَتُ مدَّتهم، وعفَّت آثارهم (1)، وأخوت منازلهم (2)، وأنست ذكرهم، فما تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم ركزاً (3).
كانوا بلهو الأمل آمنين، ولميقات يوم غافلين ولصباح قوم نادمين.
ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياناً من عقوبة الله عز وجل، فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين.
وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة، وزوال نعمة، ومساكن خاوية، فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم، وعبرة لمن يخشى.
وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص، ودنيا مقبوضة، في زمان قد ولى عفوه (4)، وذهب رخاؤه، فلم يبق منه إلا حمَّةُ (5) شر، وصبابه كدر، وأهاويل
غير (1)، وعقوبات عبر، وإرسال فتن، وتتباع زلازل، ورذالة خلف، بهم ظهر الفساد في البر والبحر.
فلا تكونوا أشباهاً لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، وتبلغ بالأماني.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى نذره وانتهى، وعقل مثواه فمهَّد لنفسه (2).
المراجع
- الثواء: الإقامة والبقاء.
- أي: قطعوها، وأقاموا الجواد، وهي الطرق.
- أي: قطعوها.
- النقب: هو الطريق بين جبلين.
- عفت: أي ذهبت ولم يبق لها أثر.
- أخوت: أي أصبحت خاوية ليس فيها أحد.
- الركز: الصوت الخفي أو الضعيف.
- عفوه: العفو: أجل المال وأطيبه، والمراد: السعة والرفاهية.
- حمة: هي السم.
- غِير: أي تغير الحال من الصلاح إلى الفساد.
- "تاريخ ابن عساكر" (35/ 208)، و "سير أعلام النبلاء" (7/ 117).