موعظة الإمام الأوزاعي لأبي جعفر المنصور
موعظة الإمام الأوزاعي
لأبي جعفر المنصور
عن محمد بن مصعب القرفساني، قال: حدثني الأوزاعي قال: بعث إليَّ أبو جعفر أمير المؤمنين، وأنا بالساحل، فأتيته، فلما وصلت إليه، وسلمت عليه بالخلافة، ردَّ علي، واستجلسني ثم ثال: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي؟
قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين؟
قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم.
قلت: يا أمير المؤمنين، انظر، [فإنك] لا تجهل شيئاً مما أقول لك.
قال: وكيف لا أجهله وأنا أسألك عنه، وقد وجهت فيه إليك، وأقدمتك له؟
قلت: أن تسمعه ولا تعمل به.
قال: فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا عقوبة، فطابت نفسي وانبسطت في الكلام فقلت:
يا أمير المؤمنين! حدثني مكحول عن عطية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه، فإنها نعمة من الله سيقت إليه، فإن قبلها بشكر، وإلا كانت حجة عليه من الله ليزداد بها إثماً، ويزداد الله بها عليه سخطة).
يا أمير المؤمنين! حدثني مكحول عن عطية بن بسر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما والٍ غاشاً لرعيته، حرم الله عليه الجنة)
يا أمير المؤمنين! من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين.
يا أمير المؤمنين! إن الذي يلين قلوب أمتكم لكم حين ولوكم أمرهم [هو] قرابتكم من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان بهم رؤوفاً رحيماً، مواسياً بنفسه لهم في يده وعند الناس. فحقيق أن تقوم له فيهم بالحق، وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً، ولعوراتهم ساتراً، لم تغلق عليك دونهم الأبواب، ولم يقم عليك دونهم الحجاب، تبتهج بالنعمة عندهم، وتبتئس بما أصابهم من سوء.
يا أمير المؤمنين! قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك، عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم وأسودهم، ومسلمهم وكافرهم، فكل له عليك نصيبه من العدل، فكيف إذا ابتعك منهم فئام وراءهم فئام، ليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه؟
يا أمير المؤمنين! حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد النبي صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها، ويروع بها المنافقين، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! ما هذه الجريدة التي كسرت بها قرون أمتك وملأت قلوبهم رعباً؟ فكيف بمن شقق أبشارهم، وسفك دماءهم، وخرب ديارهم، وأجلاهم عن بلادهم، وغيبهم الخوف منه.
يا أمير المؤمنين! حدثني مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن مسلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القِصَاصِ من نفسه في خدشة خدش أعرابياً لم يتعمدها. فأتاه جبريل فقال: يا محمد! إن الله لم يبعثك جباراً ولا مستكبراً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال: (اقتص مني) فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي، ما كنت لأفعل ذلك أبداً، فدعا له بخير.
يا أمير المؤمنين! رض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك، وارغب في جنة عرضها السماوات والأرض، التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنْ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا).
يا أمير المؤمنين! إن الملك لو بقي لمن قبلك، لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك، كما لم يبق لغيرك.
يا أمير المؤمنين! تدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك؟
{مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَٰهَا ۚ }
[الكهف: 49]
قال: الصغيرة: التبسم، والكبيرة الضحك، فكيف بما عملته الأيدي، وحدثته الألسن.
يا أمير المؤمنين! بلغني عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة، لخفت أن أسأل عنها. فكيف بمن حُرم عدلك وهو على بساطك؟
يا أمير المؤمنين! أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك؟
{يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلْنَٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلْأَرْضِ فَٱحْكُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ}
[ص: 26]
قال: يا داود! إذا قعد الخصمان بين يديك، فكان لك في أحدهما هوى، فلا تمنين في نفسك أن يكون له الحق. . فأمحوك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا كرامة. يا داود! إني جعلتً رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل، لعلمهم بالرعاية، ورفقهم بالسياسة، ليجبروا الكسير، ويدلو الهزيل على الكلأ والماء.
يا أمير المؤمنين! إنك قد بليت بأمر عظيم، لو عُرض على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفق منه.
يا أمير المؤمنين! حدثني يزيد بن مزيد عن جابر بن عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاري: أن عمر بن الخطاب استعمل من الأنصار رجلاً على الصدقة، فرآه بعد أيام مقيماً، فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك؟ أما علمت أن لك مثل أجر المجاهدين في سبيل الله؟
قال: لا.
قال عمر: وكيف ذاك؟
قال: لأنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من والٍ من أمور الناس شيئاً إلا أتي به يوم القيامة، فيوقف على جسر من نار، فينتفض به الجسر انتفاضاً يزيل كل عضو منه عن موضعه، ثم يعاد فيحاسب، فإن كان محسناً نجا بإحسانه، وإن كان مسيئاً انخرق به ذلك الجسر فهوى به في النار سبعين خريفاً).
فقال له عمر: ممن سمعت هذا؟
قال: من أبي ذر، وسلمان.
فأرسل إليهما عمر، فسألهما، فقالا: نعم، سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: واعمراه، من يتولاها بما فيها؟
فقال أبو ذر: من سلت الله أنفه، وألصق خده بالأرض.
فأخذ أبو جعفر المنديل، فوضعه على وجهه، فبكى، وانتحب حتى أبكاني فقلت:
يا أمير المؤمنين! قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة على مكة والطائف. فقال له: (يا عباس، يا عم النبي، نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها) هي نصيحة منه لعمه وشفقة منه عليه، لأنه لا يغني عنه من الله شيئاً.
وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، أريب العقيدة لا يطلع منه على عورة، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وقال: السلطان أربعة أمراء:
- فأمير قوي ظَلَقَ (1) نفسه وعماله، فذاك المجاهد في سبيل الله، يد الله باسطة عليه بالرحمة.
- وأمير ضعيف ظَلَفَ نفسه، وارتع عماله فضعف، فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله.
- وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه، فذلك الحطمة الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ( شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ) فهو الهالك وحده.
- وأمير أرتع نفسه وعماله، فهلكوا جميعاً.