خطبة بعنوان: العفو الكريم جل جلاله


السيد مراد سلامة

الخطبة الأولى

أما بعد:

حديثنا في هذا اليوم الطيب الميمون مع اسم من أسماء الله الحسنى، هذا الاسم له أثر كبير في حياة الكائنات، وخاصة بني الإنسان، إن ذلك الاسم هو العفوُّ (جل جلاله)، فعفوُه قد شمل الكائنات وعمَّ البريات المؤمنين والمؤمنات، أهل الطاعة والإحسان، وأهل الكفر والبهتان؛ يقول ابن القيم رحمه الله:

فهيَّا إخوة الإيمان لنعيش في معية العفوِّ (جلَّ جلالُه) لنتعرَّف على ذلك الاسم العظيم، وكيف ننال عفوه جل جلاله؟ 

معنى العفو:

اعلم بارك الله فيك أن معنى العفو هو: الذي يترك عباده، ولا يعاقبهم على ما صدر منهم؛ قال الخليل: "العفو: تركك إنسانًا استوجب عقوبةً، فعفوت عنه تعفو، والله العفو الغفور"[2]

واعلموا أن عفو الله عن عباده ليس ناتجًا عن استحقاقهم لذلك؛ وإنما عفوه صادرٌ عن كرمه وجُوده (جل جلاله). 

قال ابن فارس: "وقد يكون أن يعفو الإنسان عن الشيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((عفوتُ عنكم عن صدقة الخيل))[3]

فليس العفو ها هنا عن استحقاق، ويكون معناه: تركت أن أوجب عليكم الصدقة في الخيل"[4].

أي: إنه لا يشترط للعفو عن شخص ما أن يكون مستحقًّا لذلك، فالعفو هو التجاوُز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله: المحو والطمس. 

والعفو سبحانه هو الذي يحب العفو والستر، ويصفح عن الذنوب مهما كان شأنها، ويستر العيوب ولا يحب الجهر بها، يعفو عن المسيء كرمًا وإحسانًا، ويفتح واسع رحمته فضلًا وإنعامًا، حتى يزول اليأس من القلوب، وتتعلَّق في رجائها بمقلب القلوب[5]

ثبوت اسم العفو لله تعالى:

إخوة الإيمان، سمَّى الله عز وجل نفسه العفو على سبيل الإطلاق في قوله تعالى: ﴿

 إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ﴾ [النساء: 149]

وقوله: ﴿ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 99]

وقوله: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ [الحج: 60]

عفو الله العفوِّ عن المذنبين

عفو الله عن بني إسرائيل لما اتخذوا العجل:

ومن عظائم الذنوب التي ارتكبها قوم موسى عليه السلام، اتخاذهم العجل، وعبادتهم إيَّاه، ومع عظم ذلك الذنب إلا أن العفوَّ (جل جلاله) قد عفا عنهم، وغفر لهم؛ قال الله تعالى:

﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]

، هذه لا تكفيها توبة عادية؛ ولذلك قال بعدها:

﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 52]

عفو الله تعالى عن الذين تولوا يوم أحد:

ومن كبائر الذنوب التولِّي يوم الزحف، ومع أنها كبيرة إلا أن رحمة الله العفوِّ الغفور نالت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد يوم أن تولَّوا عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال الله تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [آل عمران: 155]

أما قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ [آل عمران: 155]

، فالعفو فيه غير العفو في آية الشورى، ذلك عفو عام، وهذا عفو خاص، ذلك عفو يُراد به: أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا العفو خاصٌّ بالمؤمنين يُراد به أن ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه أن يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصًا، وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة؛ ولذلك قال:

﴿ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155]

لا يعجل بتحتيم العقاب. 

ومن آيات مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم، واستحقوا العفو عن ذنوبهم[6].

لولا عفو الله تعالى لهلكنا:

إخوة الإيمان، لولا عفوه سبحانه وتعالى عنا، لهلكنا ولعاقبنا؛ ولكنه الرحمن الرحيم، العفو الغفور، قال (جل جلاله): ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].

عن علي، رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]

، وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض، أو عقوبة، أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه))[7]

محبة الله تعالى للعفو والعافين:

اعلموا علمني الله تعالى وإياكم: أن الله تعالى يحب العفو، ويحب العافين عن الناس؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تعالى عفو يحب العفو))[8]

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إن أول رجل قطع في الإسلام أو من المسلمين، رجلٌ أتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: يا رسول الله، إن هذا سرق، فكأنما أُسِفَّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رمادًا، فقال بعضهم: يا رسول الله؛ أي يقول: ما لك؟ فقال: ((وما يمنعني وأنتم أعوان الشيطان على صاحبكم، واللهُ عز وجل عفُوٌّ يحبُّ العفو، ولا ينبغي لوالي أمر أن يُؤتى بحدٍّ إلَّا أقامه)) ثم قرأ:

﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22][9]

روي عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أدعو؟ قال: ((تقولين: اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفو، فاعْفُ عنِّي))[10]

عفو الله تعالى العام:

ومن عفو الله عفوه العام عن كل من ارتكب خطيئة أو بارزه بمعصية، فإن الله تعالى فتح له باب عفوه بشرط أن يتوب عنه، وتلك من رحمات الله تعالى؛ قال الله تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 68 - 71].

فتأملوا أيها الأحباب تلك هي أمهات الكبائر، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة والمغفرة، ونالهم عفوُه متى تابوا إليه (جل جلاله). 

عن طويل شطب الممدود رضي الله عنه، "أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت رجلًا عمل الذنوب كلها، فلم يشرك بالله تعالى شيئًا، وهو في ذلك لا يترك حاجةً أو داجةً إلا اقتطعها بيمينه، فهل لذلك من توبة؟ قال: ((هل أسلمت؟))، قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((نعم، تفعل الخيرات، وتترك الشرَّات، فيجعلهن الله عز وجل للخيرات كلهن))، قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: ((نعم))، قال: الله أكبر، فما زال يكبر حتى توارى"[11]

عفو الله عن عباده يوم القيامة

عفو الله تعالى عن الآباء والأمهات بشفاعة الأبناء:

ومن عجيب عفو الله تعالى وجُودِه يوم القيامة، أن يعفوَ عن الآباء والأمهات بشفاعة أبنائهم يوم القيامة؛ فعن شرحبيل بن شفعة، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سمِع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنه يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنة))، قال: ((فيقولون: يا رب حتى يدخل آباؤنا وأمهاتنا))، قال: ((فيأتون))، قال: ((فيقول الله عز وجل: ما لي أراهم مُحْبَنْطِئِينَ، ادخلوا الجنة))، قال: ((فيقولون: يا رب آباؤنا))، قال: ((فيقول: ادخلوا الجنة أنتم وآباؤكم))[12]

العفو العام لأمة خير الأنام صلى الله عليه وسلم يوم القيامة:

عن أبي سعيد الخُدْري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فو الذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجُّون، فيقال لهم: أخرِجُوا مَنْ عرَفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا، قد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحدًا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحدًا، ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيرًا))، وكان أبو سعيد الخُدْري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]

، فيقول الله عز وجل: ((شفعت الملائكة، وشفع النبيُّون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضةً من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قطُّ، قد عادوا حممًا، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، ألا ترونها تكون إلى الحجر، أو إلى الشجر، ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض؟))، فقالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى بالبادية، قال: ((فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدَّموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه، فهو لكم، فيقولون: ربنا، أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا، أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا))[13].

واجب المسلم نحو اسم الله العفو

طلب العفو من العفو جل جلاله:

أخي المسلم: من الواجب عليك أن تطلب العَفْوَ من العفوِّ جل جلاله حتى يرحمكم في الدنيا والآخرة، وتأمَّل أحوال المؤمنين كما أخبرنا رب العالمين في قوله تعالى:

﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286].

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله العفو، فعن عبدالله بن عمر رضي الله أنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: ((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي... الحديث))[14]

عن عوف بن مالك رضي الله عنه أنه قال: "سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على ميت، فسمعت من دعائه وهو يقول: ((اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقِّه من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدَّنَس))[15]

وهذا الفضيل بن عياض أحد التابعين، يوم عرفة وهو يوم عفو مثل ليلة القدر، وقف يدعو: يا رب، اعف عني، اعف عني، فلما غربت الشمس بكى، والأصل أن يحسن الظن بالله ويستبشر، فسألوه: ألست مَنْ تُعلِّمنا حُسْنَ الظنِّ بالله؟ فقال: "لست أبكي لذلك؛ ولكن واخجلاه! واحيائي منه وإن عفا!". 

يقول سليمان الدارني أحد التابعين: "لئن سألني يوم القيامة عن ذنوبي لأسألنَّه عن عفوه؛ لأني لا أجد لي مخرجًا إلا أن أسأله عن عفوه". 

أقول قولي، وأستغفر الله لي ولكم. 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أما بعد: 

اعفُ يعفو العفوُّ جل جلاله عنك:

أخي المسلم، هل تريد أن يعفو الله تعالى عنك؟

نعم كلنا يسعى لينال العفو الإلهي، والطريق أن نكون من أهل العفو، فنعفو عمَّن ظلمنا، وعمَّن أساء إلينا، ونسامحه حتى يسامحنا الله تعالى، ويعفو عنَّا، والجزاء من جنس العمل؛ عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله))[16]

عن أنس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: ((رجلان من أُمَّتي جثيا بين يدي ربِّ العزَّة، فقال أحدهما: يا رب، خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تبارك وتعالى: أعط أخاك مظلمته، فقال: يا رب، لم يبق من حسناتي شيء، فقال الله للطالب: كيف تفعل ولم يبق من حسناته شيء، فقال: يا رب، يتحمَّل من أوزاري))، قال: وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء، ثم قال: ((إن ذلك يوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم، قال: فقال الله للطالب: ارفع رأسك، فرفع رأسه، فقال: يا رب، أرى مدائن من فضة مرتفعة، وقصورًا من ذهب مكللة باللؤلؤ، فلأي نبي، أو صديق، أو شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بم يا رب؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب، إني قد عفوت عنه، قال الله: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((اتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم؛ فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة))[17]

عفو النبي صلى الله عليه وسلم عمَّن أساء إليه:

عن أنس رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه، فضحك، ثم أمر له بعطاء"[18]

عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((رب اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))[19]

عفو أبي بكر الصديق رضي الله عنه:

فهذا هو أبو بكر الصديق خير الناس بعد الأنبياء، كان من قرابته مسطح بن أثاثة، وكان أبو بكر ينفق عليه، ويحسن إليه، فلمَّا خاض مسطح فيمن خاض في حادثة الإفك، حلف أبو بكر ألا يحسن إليه كما كان يحسن في السابق، فعاتبه ربُّه عز وجل وأنزل:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]

، فقال: بلى، أحب أن يغفر الله لي، وعاد إلى ما كان عليه من الإحسان إليه وكفَّر عن يمينه[20]

عفو عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا بن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل[21]، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه:

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]

، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله[22]

عفو بلال رضي الله عنه:

ووقع في يوم من الأيام بين أبي ذر رضي الله عنه وبلال رضي الله عنه خصومة، فيغضب أبو ذر وتفلَّت لسانه بكلمة يقول فيها لبلال: يا بن السوداء، فيتأثر بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام، ويذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويشكو أبا ذرٍّ، ويستدعي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذرٍّ، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق على صحته: ((أعيَّرته بأُمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية))، فيتأثر أبو ذر، ويتحسَّر ويندم، ويقول: وددت والله لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بلال رضي الله عنه - كما روي - ويضع خده على التراب، ويقول: ((يا بلال، ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه))، فتذرف عينا بلال رضي الله عنه الدموع، ويقول: يغفر الله لك يا أبا ذرٍّ، يغفر الله لك يا أبا ذرٍّ، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويعتنقان ويبكيان، ذهب ما في القلوب[23]

عفو ميمون بن مهران رحمه الله:

روي عن ميمون بن مهران أن جاريته جاءت ذات يوم بطبق فيها مرقة حارة، وعنده ضيوف فعثرت فصبَّت المرقة عليه، فأراد ميمون أن يضربها، فقالت الجارية: يا مولاي، استعمل قوله تعالى: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾ [آل عمران: 134]، قال لها: قد فعلت، فقالت: اعمل بما بعده ﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 134]، فقال: قد عفوت عنك، فقالت الجارية: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 134]، قال ميمون: قد أحسنت إليك، فأنت حرَّة لوجه الله تعالى[24]

عن عطاء قال: مرَّ عمر رضي الله عنه برجل وهو يكلم امرأة فعلاه بالدِّرَّة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنها امرأتي، قال: ها فاقتص، قال: قد غفرت لك يا أمير المؤمنين، قال: ليس مغفرتها بيدك؛ ولكن إن شئت أن تعفو فاعف، قال: قد عفوت عنك يا أمير المؤمنين، قال: ثم مرَّ من فوره إلى منزل عبدالرحمن وهو يقول: ويل أمك يا عمر، تضرب الناس ولا يضربونك، وتشتم الناس ولا يشتمونك حتى دخل على عبدالرحمن، فقص عليه القصة، فقال: ليس يا أمير المؤمنين، إنما أنت مؤدب[25].

[1] نونية ابن القيم، ص 207.

[2] كتاب العين: 2/ 258.

[3] رواه ابن ماجه، وحسَّنه الألباني: 1790.

[4] معجم مقاييس اللغة: 4/ 57.

[5] الأسماء والصفات؛ للبيهقي، ص75، وتفسير أسماء الله؛ للزجاج، ص82، وشرح أسماء الله؛ للرازي، ص339.

[6] تفسير المنار (4/ 158).

[7] تفسير ابن كثير، ط دار طيبة (7/ 208)، المسند (1/ 85).

[8] أخرجه الحاكم (4/ 382)، وابن عدي في الكامل (7/ 201)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1779).

[9] أحمد في المسند 1/ 419 (3977)، وانظر: السلسلة الصحيحة 4/ 181(1638).

[10] الترمذي في كتاب الدعوات 5/ 534 (3513)، وانظر: صحيح الجامع (4423).

[11] المعجم الكبير (7/ 53)، الصحيحة: 3391، صحيح الترغيب والترهيب: 3164.

[12] مسند أحمد، ج 4، ص 105، حديث رقم: 17012.

[13] أخرجه الطيالسي (ص 289، رقم 2179)، وأحمد (3/ 16، رقم 11143)، والبخاري (4/ 1671، رقم 4305)، ومسلم (1/ 167، رقم 183).

[14] أبو داود في الأدب، باب: ما يقول إذا أصبح 4/ 318، رقم (5074)، الأدب المفرد (1200).

[15] مسلم في الجنائز، باب: الدعاء للميت في الصلاة 2/ 662 (963).

[16] رواه مسلم (2588)، والترمذي (2530)، والموطأ (2/ 1000).

[17] رواه الحاكم في "المستدرك" 4/ 576، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

[18] البخاري، الفتح 10 (6088)، واللفظ له، ومسلم (1057).

[19] البخاري، الفتح 12 (6929) واللفظ له، ومسلم (1792).

[20] تفسير الطبري 19/ 123، تحفة الواعظ للخطب والمواعظ؛ للشيخ السيد مراد سلامة.

[21] الجزل: الكريم المعطاء، والعاقل الأصيل الرأي.

[22] البخاري، الفتح 8 (4642)، تحفة الواعظ للخطب والمواعظ؛ للشيخ السيد مراد سلامة.

[23] موسوعة البحوث الإسلامية 7، وأصل القصة في البخاري، الفتح1 (30)، ومسلم (1661).

[24] والعافين عن الناس (ص 16) تحفة الواعظ للخطب والمواعظ؛ للشيخ السيد مراد سلامة.

[25] الحجة في بيان المحجة؛ لأبي القاسم الأصبهاني 381، تحفة الواعظ للخطب والمواعظ؛ للشيخ السيد مراد سلامة.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ خطبة بعنوان: العفو الكريم جل جلاله

  • العفو

    فريق عمل الموقع

    العفو قال تعالى: (إن الله كان عفوا غفورا)، وأوصى ﷺ عائشة بأن تدعو في ليلة القدر بـ: (اللهم إنك عفو تحب العفو

    13/01/2021 1642
  • إنه العفو..

    عبد الله بن مشبب بن مسفر القحطاني

    ومن جلال عفوه سبحانه وتعالى: أنه من عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة، فهو كريم لا

    09/03/2022 560
  • طلب المؤمنين العفو من الله

    الشيخ سلمان العودة

    العفو من أعظم مطالب المؤمنين، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويأمر أصحابه أن يدعوا بذلك. فكان يسأل الله

    02/09/2013 8103
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day