تأملات في اسم الرحمن والرحيم
الحمد لله... وبعد:
من أسماء الله -جل وعلا- الرحمن، ومن أسمائه الرحيم.
فهو سبحانه ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "ورحمة الله وسعت كل شيء، وبلغت حيث بلغ علمه".
ومن رحمة الله بعباده أن فتح أبواب رحمته للتائبين.
ومن رحمة الله بعباده: أن بسط لهم الأرض وجعلها مهاداً، وأنشأ السحاب وأمطر المطر, وأخرج الفواكه والأقوات والمرعى، وسخر الخيل والإبل والأنعام:
(وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النحل: 53].
فهذه النعم كلها من آثار رحمته سبحانه.
خلق الله سبحانه مائة رحمة فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة، نشرها بين الخليقة ليتراحموا بها.
فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطيرُ والوحش والبهائم؛ كما جاء في صحيح الإمام مسلم (2752).
ورحمة الله -جل وعلا- تغلب غضبه، قال صلى الله عليه وسلم: "لما خلق الله الخلق كتب في كتابه: إِن رحمتي تغلب غضبي"[رواه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (7404) ومسلم (2751)].
تصوروا -رعاكم الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى امرأة في السبي تبحث عن صبي لها، فلما وجدته أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال صلى الله عليه وسلم:
"أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟" قلنا: لا، والله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها"[رواه البخاري (5999) ومسلم(2754)].
فإذا علمت يا عبد الله: بأن الله -جل وعلا- هو الرحمن الرحيم، وعرفت معنى هذين الاسمين العظيمين؛ فإن من الخسارة العظيمة والغبن الفاحش أن لا تتعرض لرحمة الله.
من الخسارة العظيمة أن لا تبحث وتعمل بالأسباب التي تنالُ بها رحمة الله.
فما مثلك حينئذ إِلا كمثل ذلك الفقير الذي لا يملك إلا ريالات معدودة، فقيل له: إن غداً موسماً سيبدأ ومدته عشرة أيام, الذي يتاجر فيه بريال يربح عشرة آلاف ريال، فقال هذا الفقير معي مئة ريال إذا تاجرت بها غداً فقط، سأحصل على مليون ريال، واليوم الثاني مليون أو أكثر، فذهب اليوم الأول ولم يتاجر، فقال: أتاجر في اليوم الثاني، وذهب اليوم الثاني ولم يتاجر والثالث؛ حتى بقي يومان فقط، فقال: لو تاجرت في هذين اليومين لأصبحت من الأغنياء ومازال يمني نفسه حتى ذهب الموسم، ذهب عمره ولم يتعرض للأسباب التي تنال بها رحمة الله، فأي خسارة تلك الخسارة! وأي ندامة تلك الندامة!.
الخاسرون في الدنيا جعلوا علمهم برحمة الله فرصة للمعصية، ولم يجعلوها فرصة للتوبة.
أما تأملوا قول الله -جل وعلا-:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ) [البقرة: 218]
القرآن بين أن الذين آمنوا وهاجروا, وجاهدوا أولئك يرجون رحمة الله.
وأما المغترون فإنهم جعلوا المفرطين المضيعين لحقوق الله، المعطلين لأوامره، المتجرئين على محارمه، أولئك يرجون رحمة الله.
اخوة الإيمان: إن الواجب على المؤمن إذا علم بأن الله سبحانه هو الرحمن الرحيم، أن يتعرض لرحمة الله –سبحانه -، وأن يبذل الأسباب التي تنال بها رحمة الله.
ومن أسباب نيل رحمة الله:
أولا: طاعة الله ورسوله، قال تعالى:
(وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132]
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام: 155].
وكلما كان الإنسان أقرب إِلى الله، طائعاً لله ورسوله، منتهياً عما نهاه الله ورسوله؛ كلما كان استحقاقه للرحمة أعظم: (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
ثانيا: ومن أسباب رحمة الله بعبده الإحسانُ إلى الخلق.
ثالثا: ومن أسباب رحمة الله بعبده تدبر القرآن:
(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204]
رابعا: ومن أسباب رحمة الله بعبده الإكثار من الاستغفار:
(لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النمل: 46]
خامسا: ومن أسباب الرحمة أن تسأل الله أن يرحمك كما صنع الأنبياءُ عليهم السلام: "قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ".
سادسا: ومن أعظم أسباب رحمة الله بعبده إقامة التوحيد لله رب العالمين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فأحق الناس برحمة الله سبحانه هم أهل التوحيد والإخلاص له؛ فكلُ من كان أكمل في تحقيق إِخلاص " لا إله إلا الله " علماً وعقيدة وعملاً وبراءةً, وموالاة ومعاداة: كان أحق بالرحمة .أ. هـ بتصرف [مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (14/414)].
اخوة الإيمان: ومن رحمة الله بعباده أن أنزل الكتب, وأرسل الرسل, وشرع هذه الشريعة العظيمة، قال تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء : 107]
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: إِن الشريعة كلها مبنية على الرحمة في أصولها وفروعها, وفي الأمر بأداء الحقوق, سواء كانت لله أو للخلق, فإن الله لم يكلف نفساً إلا وسعها، وإذا تدبرت ما شرعه الله -عز وجل- في المعاملات والحقوق الزوجية، وحقوق الوالدين والأقربين، والجيران، وسائر ما شرع، وجدت ذلك كله مبنياً على الرحمة، ثم قال: لقد وسعت هذه الشريعة برحمتها وعدلها العدو والصديق، ولقد لجأ إلى حصنها الحصين الموفقون من الخلق. أ. هـ باختصار[مجموع مؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي (صـ408) وانظر: موسوعة نظرة النعيم (2101)].
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "من أعطى اسم "الرحمن" حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل، وإنزال الكتبِ؛ أعظم من تضمنه إنزال الغيث، وإنبات الكلأ، وإخراج الحب، فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح.
ولكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب وأدرك منه أولوا الألباب أمراً وراء ذلك [انظر جهود الإمام ابن القيم في تقرير عقيدة الأسماء والصفات (1160) ].
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله. وبعد
ثَم قضيتين مهمتين في هذا الباب:
أما الأولى: فهي أن رحمة الله في الدنيا عمت جميع خلقه؛ برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم.
فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة الله آناء الليل وأطراف النهار؛ إلا أن المؤمنين لهم رحمة خاصة يسعدون بها في الدارين، قال تعالى:
(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156]
فالكافر له رحمة في الدنيا، ولا رحمة له في الآخرة.
قال الحسنُ وقتادةُ: في قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قالا: وسِعت في الدنيا البر والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة[انظر: تفسير ابن جرير الطبري (9/80)].
أما الأمرُ الثاني: فمن تأمل في آيات سورة الشعراء، يجدُ أن الله -جل وعلا- كلما ذكر قصة من قصص الأنبياء ختم القصة بقوله سبحانه:
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء: 9]
واقتران اسمُ العزيز بالرحيم يدل على أن الله -جل وعلا- عزيز.
ومع كونه عزيزاً قوياً غالباً قاهراً لكل شيء؛ فهو رحيمٌ سبحانه كريم غفور، ورحمتهُ -جل وعلا- ناشئة عن قوة وقدرة وعزة، لا عن عجز وضعف.