خطبة بعنوان اسم الله الْبَرُّ
الخطبة الأولى ( اسم الله الْبَرُّ )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
يقول الحق تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين :
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) الأعراف 180،
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن لله تسعة وتسعين اسماً مئة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة»
إخوة الإسلام
من الأسماء الحسنى التي ورد ذكرها في كتاب الله العزيز: اسم الله الْبَرُّ
قال الله تعالى:
( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور: 25-28]
واسم الله الْبَرُّ : هو فاعل البرِّ (بالكسر)، والبر: هو الإحسان والاتساع والصلة والخير، وقيل: البر هو خير الدنيا والآخرة.
والبر اسم جامع للطاعات وأعمال الخير المقربة إلي الله، وجامع لرضي الخصال، ولكل فعل مرضي
وبرّ الله بخلقه تعني : إحسانه إليهم وإصلاح جميع أحوالهم، فهو الذي لا ينقطع إحسانه عن خلقه، وقد شمل بره الكائنات بأسرها ، فهو دائم الإحسان، وواسع المواهب،
وهو سبحانه بر بعباده يوسع عليهم بالخير، ويعطف عليهم، ولا يقطع الإحسان بسبب العصيان. وقد فسّره الإمام الخطابي البر بقوله: “البر هو العطوف على عباده, المحسن إليهم, عمّ ببره جميع خلقه, فلم يبخل عليهم برزقه, وهو البرُّ بأوليائه, إذ خصهم بولايته, واصطفاهم لعبادته, وهو البرُّ بالمحسن في مضاعفة الثواب له, والبر بالمسيء في الصفح, والتجاوز عنه”.
وذكر الإمام البيهقي في كتابه الأسماء والصفات عن الحليمي قوله:
البر: ” معناه الرفيق بعباده، يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر, ويعفو عن كثير من سيئاتهم، ولا يؤاخذهم بجميع جناياتهم, ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها, ولا يجزيهم بالسيئة إلا مثلها، ويكتب لهم الهمّ بالحسنة، ولا يكتب عليهم الهمّ بالسيئة”.
وقال الراغب الأصفهاني: (البر : التوسع في فعل الخير، وينسب ذلك إلى الله تارة نحو، إنه هو البر الرحيم: وإلى العبد تارة فيقال: بر العبد به أي توسع في طاعته فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعة…)
ومن بر الله بخلقه أن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ،وتولاهم بولايته وأحاطهم بعنايته فشرح صدورهم لطاعته وأوزعهم شكر نعمته فأصبحوا شاكرين وأمسوا مشفقين من عذاب ربهم فتنطق ألسنتهم مثنية على ربها
{ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } الطور(27)
وما منّ الله عليهم هناك إلا لما منّ عليهم هنا في الدنيا بمباعدتهم عما يوجب دخلوها .
بل بلغ بر الرب تبارك وتعالى بأوليائه في الدنيا أن لو أقسم عليه أحدهم للبى له طلبه وما حنثه في يمينه فهذا أنس بن النضر رضي الله عنه علم أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ أخته كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ فَطَلَبُوا إليهم الْأَرْشَ وَطَلَبُوا الْعَفْوَ فَأَبَوْا فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَهُمْ بِالْقِصَاصِ
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟! لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا فَقَالَ يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَعَفَوْا
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ
وفي لفظ (فَرَضِيَ الْقَوْمُ وَقَبِلُوا الْأَرْشَ ) [متفق عليه]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ :
( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ) [رواه مسلم]
كما أن البر عز وجل هو الصادق في وعده الذي يتجاوز عن عبده وينصره ويحميه ، ويقبل القليل منه وينميه.
فالله تبارك وتعالى بَرّ رحيم بعباده، عطوف عليهم، محسنٌ إليهم، مُصلح لأحوالهم في الدنيا والدين.
أما في الدنيا فما أعطاهم وقسم لهم من الصحة والقوة والمال والجاه والأولاد والأنصار، مما يخرج عن الحصر، قال سبحانه:
{ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ} [إبراهيم: 34]
فيدخل في ذلك كلُّ معروف وإحسان، لأنها ترجع إلى البر. ويشترك في ذلك المؤمن والكافر.
وأما في الدين فما منَّ به على المؤمنين من التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعطائهم الثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة، وهو الذي وفَّق وأعان أولاً، وأثاب وأعطى آخرًا. فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمداد، فله الحمد في الأولى والمعاد.
ومن برِّه سبحانه بعباده إمهاله للمسيء منهم، وإعطاؤه الفرصة بعد الفرصة للتوبة، مع قدرته على المعاجلة بالعقوبة.
قال سبحانه:
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ۖ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ۚ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا } [الكهف: 58]
أيها المسلمون
وإذا تأملنا مقاصد هذا الاسم الإلهي العظيم ودلالاته، تبيّن بجلاءٍ أن برّه سبحانه وتعالى بخلقه على نوعين:
البرّ العام : وهو الإحسان الإلهي الذي وسع الخلائق كلّها في البرّ والبحر، والسماوات والأرض، وما من مخلوقٍ إلا وقد أسبغ عليه نعمه وإحسانه ظاهراً وباطناً، فهيّأ له رزقه وقوته، وكساه الجمال وأحسن خلقه، وأعطاه ما ينفعه ودفع عنه ما يضرّه، بحسب ما تقتضيه حكمته، ومن دلائله قوله تعالى:
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } (الأعراف:156)
{ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } (النحل:53)
{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } (السجدة:7)
والبرّ الخاص : وتعني ما خصّ به المؤمنين المتقين دون غيرهم، بتوفيقهم إلى الطاعة وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، وتثبيتهم على الاستقامة، والأمن والطمأنينة النفسيّة، والعفو عن السيئات، ومضاعفة الحسنات ، قال تعالى :
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } (الأعراف:156)
، وغيرها من الخصائص التي أكرمهم بها،
أما في الآخرة فقد خصّهم بالجنة وبرؤيته سبحانه وتعالى:
{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } (يونس:26)، ويا لهما من نعمة.
قال الإمام ابن القيم- رحمه – الله في شرحه للطائف أسرار التوبة:
ومنها: أن يعرف بِرَّه سبحانه في سَتره عليه حال ارتكاب المعصية، مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره.
والله تبارك وتعالى بارٌّ بأوليائه، صادقٌ فيما وعدهم به من الأجر والثواب، قال تعالى :
{ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ } [الأعراف: 44]
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } [الزمر: 74]
وأما البار من العباد : فهو من يصدر عنه البر والطاعة، وأولى بالإنسان أن يكون مشتغلاً بأعمال البر، واستباق الخيرات، وأن لا يضمر الشر، ولا يؤذي أحداً،
والبار هين لين، ذو وجه طلق، وكلام لين”. وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “البر لا يبلي، والذنب لا ينسى، والديان لا ينام ـ كما تزرع تحصد ـ وكما تدين تدان”
أيها المسلمون
وللإيمان باسمه تعالى (البر) آثار في حياة المؤمن ، فمن آثار الايمان باسمه سبحانه (البر): أولاً: أن محبته سبحانه المحبة الحقيقية التي تقتضي عبادته وحده لا شريك له تقتضي شكره سبحانه وحمده على بره ورحمته ولطفه وكرمه حيث خلقنا وأمدنا بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وخص أولياءه بأعظم بره ورحمته ألا وهي هدايته لهم وتوفيقهم وتثبيتهم وإثابتهم على ذلك برضوانه وجنته.
ثانيًا: أن الله – جل شأنه- بَرٌّ يُحبُّ البِرَّ ويأمر به، ويحب من يتخلَّقُ به من عباده الأبرار.
ومن أجمع الآيات التي ذكرت أعمال البرِّ قوله تعالى:
{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]
وأثنى الله تعالى على ابني الخالة عيسى ويحيى – عليهما الصلاة والسلام – ببرهما أبويهما، فقال في وصف عيسى عليه الصلاة والسلام:
{ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32]
وفي وصف يحيى عليه الصلاة والسلام: { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا } [مريم: 14]
وجعل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلَّ الأخلاق الفاضلة الحسنة من البِرِّ، ففي صحيح مسلم (عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ « الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ».
ثالثًا: لن ينال العبدُ برَّ الله تعالى به في الآخرة إلا باتباع ما يُفضي إلى بره ومرضاته ورحمته، قال تعالى:
{لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [آل عمران: 92]
ومن آثار الإيمان باسم الله البر : إدراك أن الخالق سبحانه وتعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر:
{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة:185)
ومن التيسير الحاصل لهم مجازاتهم بالعمل اليسير الأجر الكثير، وإثابتهم بمجرّد النيّة الصالحة، وفي المقابل: غفران السيئات ومحوها بالأعمال الصالحة ، قال تعالى :
{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (هود:114)
ومجازاة السيئة بمثلها، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
« مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ وَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ ». رواه مسلم.
أما في الآخرة فالجزاء على السيئات وإنفاذ الوعيد عليها مرتبط بالمشيئة، فإن شاء الرّب عذّب، وإن شاء تجاوز وغفر، وذاك من عدله وإحسانه.
ومن آثار الإيمان باسم الله البر : إمهال الخالق للمذنبين وستره لعيوبهم، قال سبحانه وتعالى:
{ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا } (الكهف:58)
فينبغي على العبد أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية، مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه، وإذا اشتغل العبد بمطالعة هذه المنة وتذكّرها واستحضارها، قوي تعلّقه بالله وازداد إيمانه، وهو أنفع له وأكمل من الاشتغال بالجناية، وشهود ذل المعصية، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى، والمقصد الأسنى ،
ومن آثار الإيمان باسم الله البر : أن المؤمن مع ما يرى من منة البر منه سبحانه عليه وكثرة فضائله لديه إلا أن ذلك لا يؤمنه من عذابه , ولا يقطع عليه الوعد أنه من الناجين من النار بل يشفق أن يكون من أهلها. فذلك الإشفاق كان سببا في عتقهم من النار فالله أخبر عن ناجتهم منها ولم يذكر من أعمالهم إلا الخوف والدعاء ، قال تعالى :
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } (25) : (28) الطور
{ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } (27)، (28) المعارج
الخطبة الثانية ( اسم الله الْبَرُّ )
الحمد لله رب العالمين .. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان .ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد أيها المسلمون
ومن آثار الإيمان باسم الله البر : : الدعاء بهذا الاسم ، كما في قول الله تعالى :
(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور:28]
وروى ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها : ( أنها مرت بهذه الآية
(فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ) [الطور:27]
فقالت : اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم فقيل للأعمش : في الصلاة ؟ فقال : في الصلاة
ومن آثار الإيمان باسم الله البر : : أن الله كما أنه تسمى بالبر فهو الذي يأمر بالبر ويحب البررة . فيعرض العبد أحواله على خصال البر ويقيم قلبه على مواقعها قال تعالى :
(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177]
ومن أعظم البر الذي حث الله عليه عبيده , و أحب العمل إليه بعد الصلاة وأعظم الصالحات وسيلة عنده بر العبد بوالديه ومن أراد بر ربه به فليقم علاقته مع والديه على ما يرضي ربه عنه فرضاه في رضاهما وسخطه في سخطهما , وليلزم رجل أمه فالجنة هناك ولن يشرف العبد إلا إذا خفض لهما جناح الذل وهكذا كان أنبياؤه وأصفياؤه من خلقه قال تعالى عن يحيى عليه السلام: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً) [مريم:14] كما ويسعى جاهدا أن تكون أعماله كلها مبرورة فهذا الذي يزكي له عمله ويضاعف له أجره فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة , ومن أراد أن يحوز على البر كله فليحسن معاملته للآخرين فروى مسلم من حديث النواس رضي الله عنه أنه قال :
( سألت رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم ، فقال : الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) ،
ولن يبلغ العبد ذلك إلا إذا تضرع إلى ربه أن ينيله الله البر ويرزقه إياه وهذا كان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم في سفره أنه كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال : ( سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ، اللهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى …) [رواه مسلم]
ومن آثار الإيمان باسم الله البر : أن معرفة الله بهذا الاسم تؤدي إلى الاشتياق إلى ما وعد الله به الأبرار من عباده بأصناف النعيم ،قال البر تعالى:
{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} المطففين (22) :(24)
وقال تعالى :
{لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ } آل عمران (198)
ومن آثار الإيمان باسم الله البر :: أن من عرف الله بهذا الاسم يرى جميل بره وكريم إحسانه به وهولا يزال مقيما على معاصيه معرضا عنه قاده ذلك إلى الحياء منه والرجوع إليه. وقطع الطمع من الخلق وعلق رجاءه به وحده فلا يتوجه بمسائله إلا إليه .وكان ذلك سببا في طرد همومه وغمومه .لأنه يعلم أنه هو الذي يتولاه بولايته.