الشبَهات في اسم الله (الغني)
الشبهة الأولى:
يقول القائل: الله مستوٍ على العرش، إذن هو محتاج ومفتقر إلى العرش.
الرد عليها:
قال تعالى:
{فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]
وقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد} [فاطر:15]
وخلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته، وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي، محيطاً به، حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه؛ فانظر إلى السماء، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها.
فالرب تعالى أعظم شأناً، وأجلُّ من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق.
يراجع:
الشبهة الثانية:
هل يفتقر الله عز وجل إلى خلقنا كي يظهر صفاته؟ وهل يحتاج إلى إظهارها؟ أليس بغني عن كل شيء؟
الرد عليها:
الله عز وجل متصف بصفة الغنى الأزلي المطلق فلا تنوبه الحاجة إلى شيء من خلقه، وهو متصف بالكمال قبل أن يخلق الخلق وسيبقى متصفًا به، وإظهاره سبحانه لصفاته في خلق الخلق ليس لحاجة إلى ذلك، بل لو لم يخلق لما فات كماله ولما انتقص، لكن الخلق هم المحتاجون إلى إظهار هذه الصفات وهم المنتفعون بها، فلا ينتفع بأفعال الله تعالى إلا الخلق.
يقول الطحاوي: ما زال بصفاته قديمًا قبل خلقه, لم يزد بكونهم شيئًا لم يكن قبلهم من صفته, وكما كان بصفاته أزليًا كذلك لا يزال عليها أبديًا, ليس منذ خلق الخلق استفاد الخالق, ولا بإحداثه البرية استفاد الباري, له معنى الربوبية ولا مربوب, ومعنى الخالقية ولا مخلوق, وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيى استحق هذا الاسم قبل إحيائهم, وكذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم, ذلك أنه على كل شيء قدير, وكل شيء إليه فقير, وكل أمر عليه يسير, لا يحتاج إلى شيء, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير.
وفي معنى الرد عن هذه الشبهة يقول الشيخ ابن عثيمين: فالله عز وجل ليس محتاجًا إلى الخلق, بمعنى أنه لو لم يوجد هذا الخلق لفات كماله، وليس هناك ضرورة إلى وجودهم من باب أولى, فأفعال الله التي يفعلها لا يفعلها لحاجته إليها, ولا لضرورته إليها، ونحن نفعل الأفعال لحاجتنا إليها، فنتكسب لنزداد من المال, وهذه حاجة، ونتكسب لننقذ أنفسنا من الهلاك, وهذه ضرورة, لكن الله عز وجل يفعل بلا حاجة ولا اضطرار؛ لأن الله عز وجل يقول" (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: الآية 15)، فهو غني عن كل أحد، حميد على كل فعل وعلى كل صفة، فلا يفعل حاجة ولا يفعل لضرورة ... والآيات في أنه سبحانه لم يخلق الخلق إلا لحكمة كثيرة، لكن هذه الحكمة ليس لأنه محتاج لها هو أو مضطر إليها بل يحتاج إليها الخلق، فالله سبحانه وتعالى يفعل الفعل لحاجة الخلق إليه، لا لحاجته هو إلى الفعل، فهو كامل على كل حال، لكن الخلق هم الذين يحتاجون إلى ما يكون به كمالهم ودفع ضرورتهم؛ ولذلك لا ينتفع بأفعال الله إلا الخلق، فهم يستدلون بها على آياته، وعلى فضله، وعلى عدله، وعلى عقابه وانتقامه، وغير ذلك, فالحاجة إذن للخلق وليست للخالق، أما الخالق عز وجل فإنه يفعل بلا حاجة ولا اضطرار, أما الدليل النظري على أن الله يخلق لغير حاجة ولا اضطرار: أن العقل يدل على كمال الخالق، والكامل لا يحتاج إلى مكمل.
وفي معنى هذه الشبهة أيضا يقول الشعراوي في تفسيره: صفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخَلْق، إذن: فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئًا، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء, وهنا قد يسأل سائل: فلماذا التكليفات إذن؟ نقول: إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم؛ لكي تستمر حركة حياتهم، وتتساند ولا تتعاند؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجًا نسير عليه، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله، من الخالق الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحهم ويُنظم حياتهم، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أنْ تتأبّى عليه، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه.
يراجع:
الشبهة الثالثة:
لماذا خلق الله البشر؟ تجيبون: خلَقنا الله لنعبده، والسؤال لكم أيها المؤمنون: هل يحتاج الله لعبادتنا؟ وما الذي سيستفيده من عبادتنا له؟ وإذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئًا، فهل خلقنا ليعبث بنا؟ وإذا كان خلقنا لعبادته، فلماذا يعبده بعض الناس لا كل الناس؟ ولماذا لم يجعلنا كلنا نعبده؟ ولماذا لم يستأذن منا قبل أن يخلقنا؟
الرد عليها:
لماذا خلقنا الله؟
بيَّن الحق سبحانه وتعالى الغاية الكبرى التي من أجلها خلَق الجن والإنس؛ فقال سبحانه: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وإذا كان الله هو الخالقَ فله الحق أن يُعبَد، إذا كان الله هو الخالقَ فهو المستحق للعبادة، ونحن نعبد الله؛ لأنه خلقنا وأمَرنا أن نعبده؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].
ومما ينبغي علينا معرفته: أن الإنسان أصبح كائنًا حيًّا موجودًا بعد أن لم يكُنْ له وجود ولا حياة، وخَلْق الإنسان بعد أن لم يكن شيئًا، ووهبُ الحياة له ما هو إلا فضلٌ وجودٌ وكرمٌ من الله للإنسان، ونعمة الوجود ونعمة الحياة لا تقدر بثمن، والإنسان لا يتمتع فقط بنعمة الوجود والحياة، بل يتمتع أيضًا بنعمة الصحة، ونعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة التذوق، ونعمة اللمس، ونعمة الكلام، ونعمة الحركة.. إلى غير ذلك من النِّعَم التي يتمتع الإنسان بها.
وإذا كان مَن فعل لك معروفًا له حق أن يشكر، وأن تذكُرَ معروفه، وتكسبه المقالة الحسنة - فهل الخالق واهب النعم للإنسان لا يستحق منا الشكر والتقدير والاعتراف بفضله وجوده وكرمه؟
وعبادتنا لله من شكرنا له، ونحن لو عبدنا الله طيلة حياتنا ما وفَّيْناه حق نعمة واحدة وهبَنا إياها، فكيف بكل هذه النعم الكثيرة التي لا تُعَدُّ ولا تحصى؟! قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 18]
وعبادة الله في حد ذاتها نعمة عظيمة، وخير كبير؛ إذ العبادة اسمٌ جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وما يحبه الله عبارة عن أوامرَ يحب أن تُفعَل، ونَوَاهٍ يحب أن تُجتنَب، ولا يأمر الله إلا بكل معروف، ولا ينهى إلا عن منكر، وفعل المعروف وترك المنكر فيه الخير والصلاح لنا ولمجتمعنا، والسعادة لنا ولمجتمعنا، وكأن الله خلقنا لننعم بعبادته، وننعم بشرعه.
وإذا عبَدْنا اللهَ حقَّ عبادته سعِدنا في الدنيا، وفُزْنا بالجنة في الآخرة؛ قال تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 82]
وقال تعالى:
﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [النساء: 13]
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأحقاف: 13، 14]
والالتزام بشرع الله وعبادته سبحانه يؤدي إلى السعادة في الدنيا، ويترتب على الالتزام بشرع الله وعبادته الفوزُ والسعادة في الآخرة، وكأن الله خلَقنا لننعَم بطاعته في الدنيا، وننعَم - إذا أطعناه في الدنيا - بجنته في الآخرة.
بيان خطأ اعتراض الملحد على الله قائلاً: لماذا يريد الله منا أن نعبده؟ أيحتاج إلى عبادتنا؟
إن من يعترض على الله قائلاً: لماذا تريد مني يا ألله أن أعبدك؟ أتحتاج إلى عبادتي؟ كالعبد الذي يعترض على سيده وقد أمره بشيء، فقال له: سيدي، لماذا تريد مني أن أفعل ما تأمرني به؟ أتحتاج إلى ذلك؟ وهذا خطأ، ووجه الخطأ في ذلك: أن العبد ليس له أن يسأل هذا السؤال؛ لأنه عبدٌ لسيده، وهل يُعقَل أن يحاكم العبدُ سيده؟! ونحن عبيد لله، فكيف لنا أن نحاكمه؟! هذه واحدة.
والأمر الآخر: هذا السؤال نفسه مبني على مغالطة، أن كل أمر يأمر به السيد عبده يحتاجه السيد من العبد، وهذا ليس صحيحًا؛ فقد يكون الأمر اختبارًا من السيد لعبده، وقد يكون الأمر تشريفًا للعبد بفعل شيء جديرٍ أن يفعله، وقد يكون الأمر لمحبة السيد أن يرى امتثال عبده له وطاعته له، وقد يأمر السيد عبده بشيء إذا فعله رفع منزلته عنده، وأفاض عليه بعطايا عظيمة، ولله المثل الأعلى.
والله - عز وجل - خلقنا لنعبده، وفي عبادته سبحانه صلاحنا وسعادتنا في الدارين؛ دار الدنيا ودار الآخرة، فنحن الذين نحتاج إلى عبادته، ونحن من ننتفع بعبادته، فأمره لنا بالعبادة من حبه لنا، ومن فضله وكرمه علينا؛ قال قتادة وغيره من السلف: "إنَّ الله سبحانه لم يأمُرِ العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلاً منه، بل أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم".
والله - عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا؛ تشريفًا لنا، وتمييزًا لنا عن كثير من خَلْقه سبحانه.
والله - عز وجل - خلقنا لنعبده؛ لأنه يحب أن يرى امتثالنا وطاعتنا له سبحانه، وإذا طلب منك ملِك من ملوك الدنيا فِعل شيء يحب أن تفعله، فهل ستتأخر عن ذلك وتقول: لماذا تطلبه مني؟! وإذا طلب منك رئيس من رؤساء الدول فِعل شيء يحب أن تفعله، فهل ستتأخر عن ذلك وتقول: لماذا تطلبه مني؟! وإذا طلب منك أحد الوزراء فعل شيء يحب أن تفعله، فهل ستتأخر عن ذلك وتقول: لماذا تطلبه مني؟!
والله - عز وجل - خلقنا لنعبده باختيارنا؛ ليُنعِم علينا في الآخرة - إذا عبدناه وحده وأطعناه - بالسعادة الأبدية، وذلك كرمٌ منه وفضلٌ.
وكون اللهِ هو الخالقَ، فهذا يقطع بعدم احتياجه لغيره، فكيف ندَّعي أنه يحتاج إلى عبادتنا وهو لا يحتاج لغيره؟!
والله - عز وجل - ما كلف المكلفين ليجرَّ إلى نفسه منفعةً، أو ليَدفَع عن نفسه مضرَّة؛ لأنه تعالى غنيٌّ على الإطلاق، فيمتنع في حقه جرُّ المنفعة، ودفع المضرة؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وواجب الوجود لذاته في جميع صفاته يكون غنيًّا على الإطلاق، وأيضًا فالقادر على خَلْق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيِّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة - ممتنع أن ينتفع بصلاة "زَيْدٍ"، وصيامِ "عَمْرٍو"، وأن يستضر بعدم صلاة هذا، وعدم صيام ذلك.
والأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان إنما تنفَع صاحبها، وكذلك الأعمال السيئة لا تضر إلا صاحبها، وأما الله تعالى فغنيٌّ عن العالمين؛ فالخلق هم المستفيدون من الطاعة، والمتضررون من المعصية؛ قال تعالى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]
وقال تعالى:
﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 8]
أي: إن تكفروا بالله أنتم وجميع أهل الأرض، فلن تضروا الله شيئًا؛ فإن اللهَ لغني عن خَلْقه، مستحقٌّ للحمد والثناء، محمود في كل حال.
وقال تعالى:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ﴾ [النساء: 131]
أي: إن تجحدوا وحدانية الله تعالى وشرعه، فإنه سبحانه غنيٌّ عنكم؛ لأن له جميع ما في السموات والأرض، وكان الله غنيًّا عن خلقه، حميدًا في صفاته وأفعاله.
وفي الحديث القدسي قال الله - عز وجل -: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولَكم وآخركم، وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقُص المِخيط إذا أدخل البحر".
بيان خطأ اعتراض الملحد على الله قائلاً: لماذا لم تستأذن مني يا ألله قبل أن تخلُقني؟
إن من يعترض على الله قائلاً: لماذا لم تستأذن مني يا ألله قبل أن تخلقني؟ كالعبد الذي يعترض على سيد اشتراه فقال له: لماذا لم تستأذن مني قبل أن تشتريني؟ وهذا خطأ، ووجه الخطأ في ذلك: أن العبد ليس له أن يسأل هذا السؤال؛ لأنه عبدٌ مملوك لا اختيار له مع اختيار سيِّده ومالكِه.
ومن يعترض على الله قائلاً: لماذا لم تستأذن مني يا ألله قبل أن تخلقني؟ كالابن الذي يعترض على أمه قائلاً: لماذا لم تستأذنيني يا أمي قبل أن تلِديني؟ ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من السُّخف والغلط.
ولا شك أن الوجود بعد العدم خير، ووجود الإنسان في هذا الكون وتمتعه بالحياة خير، وفعل الخير لا يحتاج إلى استئذان، أرأيت أمًّا تستأذن رضيعها لتغذيه؟! أرأيت أبًا يستأذن ابنه كي يربيه؟! أرأيت شخصًا يستأذن شخصًا كي ينقذه؟! أرأيت غنيًّا يستأذن فقيرًا كي يعطيه مالاً؟! ولله المثل الأعلى؛ فقد خلَق الإنسان في هذه الحياة الدنيا، وجعله كائنًا بعد أن لم يكن، وبدلًا من أن يشكره الإنسان على خَلقه له يتبجح قائلاً: هل استأذنتني يا ألله قبل أن تخلقني؟! منطق معكوس، ومن يقول: إذا كان وجود الإنسان في الدنيا عبارة عن امتحان من الله للإنسان، وأنا لم أوافق على دخول هذا الامتحان، فليس من العدل إقحامي في امتحان لم أوافق عليه - يقال له: اعتراضك لا يصح؛ فأنت عبدٌ لله، والسيد يتصرف في مملوكه بما شاء.
وهذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة؛ فمَن عمل صالحًا في الحياة الدنيا كان الجزاء جنة عرضها السموات والأرض، فهذا الامتحان من أجل جائزة كبرى لمن نجح في الاختبار، ألا وهي دخول الجنة، ومن رُشِّح للفوز بجائزة كبيرة مقابل اجتياز اختبار لا شك أنه سيقبل الاختبار، والناس تتسارع في المسابقات من أجل الفوز، فكيف بالجنة! ألا تستحق أن نتسارع من أجلها؟ وهذه الدنيا امتحان يبيِّن مَن يستحق دخول الجنة، ومَن لا يستحق.
الرد على سؤال الملاحدة: لماذا لم يخلُقِ الله كل البشر صالحين؟
يتساءل الملاحدة في دهشة: إذا كان الله يحبنا، ويحب أن نعبده، فلمَ لم يخلقنا كلنا طائعين صالحين؟! والجواب: أن الله هو مالك البشر، والمالك يتصرف في مُلكه بما شاء وكيف شاء؛ قال تعالى:
﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]
﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]
والإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير وطريق الشر، وحرٌّ في اختيار طريق النور وطريق الظلام، وحر في اختيار طريق الإيمان وطريق الكفر؛ قال تعالى:
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]
وقال تعالى:
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]
﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99]
وما دام الإنسان حرًّا، فاختياره قد يكون حجة له، أو حجة عليه.
وقد اقتضت حكمةُ الله أن يكون الإنسان حرَّ الإرادة، غيرَ مجبَر على الإيمان أو الكفر، والله حكيم في أفعاله؛ فكل فعل يفعله له حكمة، عرفناها أو لم نعرفها؛ قال تعالى:
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النساء: 26]
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]
﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 62]
وحرية اختيار الإنسان مَيْزة قد ميزه الله بها عن كثير من المخلوقات؛ فليس الإنسان كالحيوان أو الجماد، بل الإنسان يُطيع اللهَ باختياره، ومَن يعترض على عدم جعل الناس جميعًا طائعين مؤمنين هو في الحقيقة يعترض على جعل الإنسان مخيرًا لا مسيرًا، هو في الحقيقة يعترض على الميزة التي تميز بها الإنسان عن الحيوان وعن الجماد.
ولو جعل اللهُ جميع الناس طائعين صالحين عابدين له، لربما ظُنَّ أنه يحتاج لعبادتهم.
وبوجود الطاعةِ والمعصية يحدُثُ التدافع بين الخير والشر، ويحدث التدافع بين الحق والباطل، ويحدث التدافع بين الكفر والإيمان، وتظهر حلاوةُ الطاعة ومرارة المعصية، وتظهر حلاوة التوبة ومرارة التمرُّد والعصيان، ولولا قُبحُ المعصية ما عُرف حُسن الطاعة، ولولا وجود العصاة ما عُرف نعمة الهداية، ولولا اقتراف المعاصي ما عرف نعمة التوبة، والضد يُظهِر حُسنَه الضدُّ، وبضدها تتميز الأشياء.
الرد على سؤال الملاحدة: إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئًا، فهل خلَقنا ليعبث بنا؟
يتساءل الملاحدة في دهشة: إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئًا، فهل خلَقنا ليعبث بنا؟ وهذا السؤال مبنيٌّ على مغالطة، مبناها: أننا ما دمنا لا ندرك الحكمة من أمر الله لنا بالعبادة، فلا حكمة، والأمر عبَث، وهذا الكلام غيرُ صحيح؛ إذ كثير من الأمور لا ندرك حكمتها، وكوننا لا ندرك حكمتها ليس معناه أن لا يوجد حكمة؛ إذ علمنا قاصر، وليس معنى عدم العلم العدم.
والواحد منا قد لا يدرك الحكمة من فعل شخص شيئًا من الأشياء، وهو مثله في البشرية، ومع ذلك لا يستطيع أن يقول: أن لا حكمة في فعله، فكيف لو كان عبقريًّا من العباقرة، أو عالِمًا من العلماء؟! وكيف لو كان الفاعل هو خالقَ العباقرة والعلماء وجميع البشر؟!
والواحد منا يتعفَّفُ عن أن يفعل شيئًا عبَثًا، ويستنكر على من يفعل شيئًا بلا هدف، فكيف ننسب ذلك للخالق؟!
وسؤال الملاحدة: إذا كانت عبادتنا لا تفيد الله شيئًا، فهل خلَقنا ليعبَث بنا؟ مبني على مغالطة، مبناها: أن الفعل الذي لا يستفيد الشخص من فِعلِه فعلُه عبَث، وهذا غير صحيح؛ إذ قد يفعل الشخص شيئًا لا يستفيد منه، ولا ينتفع به، بل ليفيد غيره، ولينتفع به غيره؛ فقد يفعل الواحد منا شيئًا من قبيل الكرم والجود والفضل، أو من قبيل حب الخير للناس، وحب الخير للغير.
والله قد أنعم علينا بالوجود والحياة فضلاً منه وجودًا، وهل يصح جعلُ فعل الكريم الجَوَاد من قبيل العبث وعدم الغائية؟! ومن حب الله لنا: أن خلقنا وأمرنا بعبادته، وهل يصح جعل الفعل الدالِّ على المحبة من قبيل العبَث وعدم الغائية؟!
الرد على سؤال الملاحدة: لماذا لم تدخلنا يا الله الجنة دون المرور بالدنيا؟
يقول الملاحدة: أنتم أيها المؤمنون تزعمون أن الله خلقنا لننعم في الآخرة بالجنة، فلماذا لم يدخلنا الجنة دون المرور بالدنيا؟ والجواب: أن الله هو مالك البشر، والمالك يتصرف في ملكه بما شاء وكيف شاء؛ قال تعالى:
﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]
﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]
والله حكيم في أفعاله؛ فكل فعل يفعله له حكمة، عرفناها أو لم نعرفها؛ قال تعالى:
﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [النساء: 26]
﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 18]
﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 62]
وقد جعل الله الدنيا دار اختبار للبشر، تبيِّن مَن يستحق دخول الجنة منهم ممن لا يستحق، وتبين المؤمن من الكافر، وتبين الصالح من الطالح، مما هو معلوم لله قبل ظهوره في الحاضر والواقع، فيكون علمَ شهادة بعد أن كان علمَ غيب؛ قال تعالى:
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2]
، وقال تعالى:
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 179]
وقال تعالى:
﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 4]
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]
وليس مِن العدل التسويةُ بين الصالح والطالح، وليس من العدل التسوية بين المؤمن به والكافر به؛ قال تعالى:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [القلم: 35، 36]
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾ [السجدة: 18]
وإذا كان الواحد منا لا يرضى أن تساويَ المدرسة أو الكلية بين الطالب الذي يذاكر والذي لا يذاكر، ولا يرضى أن تساوي المدرسة أو الكلية بين الطالب الناجح النَّبيه والطالب الفاشل الكسول، فكيف بالخالق العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة؟! أنعتقد أنه يساوي بين المؤمن والكافر، أو يساوي بين الطائع والعاصي يوم القيامة؟
يراجع: