الحديث الحادي والثلاثون حديث الرضا
- قال الترمذي رحمه الله: حَدَّثَنَا قتيبة، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَنَّ عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ؛ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ".
الحكم على الحديث
سنن الترمذي (2396). وقال الألباني رحمه الله: سنده حسن. الصحيحة (146)
أهمية الحديث
1- معرفة معنى من معاني جنة الدنيا وهو الرضا
2- التوجيه لعدم القنوط واليأس بسبب عظم البلاء بل معه عظم الجزاء
3- معرفة قانون: الجزاء من جنس العمل
غريب الحديث
1- عظم: كثرة
2- ابتلاهم: اختبرهم وامتحنهم
3- السخط: العذاب والغضب
فوائد الحديث
1- جنة الرضا جنة عاجلة يجدها الراضي في قلبه؛ فحين يلقى الأقدار بالرضا عن المقدر سبحانه فإنه لا يبالي حين ذلك، فقلبه متعلق بالرضا بربه منتظر لثوابه
2- الدنيا دار ابتلاء؛
قال تعالى: {ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ} [الملك: 2]
فلا بد من ابتلاء؛
قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]
وللابتلاء عبودية؛
قال تعالى: {فَلَوْلَآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43]
فالحذر حال الابتلاء من الجزع أو السخط أو الانشغال بالابتلاء عن المبتلي؛ قال تعالى:
{فَلَوْلَآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]
3- العبد الرباني يعرف فقه الابتلاء ويتعامل مع البلاء على مراد الله منه؛ قالوا: ليس للقيد ذنب فيلام، إنما ينبغي التشاغل مع من قيده والسلام
4- نظر الرباني متعلق بالآخرة شاخص بقلبه إليها، فإذا علم "أَنَّ عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ". شغله عظم الجزاء عن عظم البلاء، فصار استقباله للبلاء بالفرح بعظم الجزاء فلم يستهول البلاء، بل هونه عليه النظر إلى الثواب والجزاء؛ كان صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد وقد دميت إصبعه، فقال
"هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" (1)
______________________
أخرجه البخاري (2802)، ومسلم (1796)
ويذكر عن بعض العابدات، أنها أصيب أصبعها بقطع فلم تتألم ولم تظهر التضجر، فقيل لها في ذلك، فقالت: حلاوة أجرها أنستني مرارة ألمها
5- فما بالك بالثانية التي يرتجف لها القلب: "وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ"
فورد البلاء علامة الحب وسيماه، وتوجيه نظر الرباني بأن ينظر للبلاء قائلاً: مرحباً ببشرى الحبيب. فلا جزع ولا هم، بل رضا وراحة قلب
6- رضا الله عن العبد أفضل من الجنة بدليل الحديث الصريح في ذلك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (1).
فإن يحل رضوان الله على عبد ويكون في أمان من السخط أفضل من الجنة.
7- علامة رضاه عنك رضاك عنه، سبق أن قلنا أن الرضا ثلاث درجات
- الأولى: الرضا عن الله؛ وهو الرضا بقضائه وقدره، وهو الرضا به رباً مقسماً للأرزاق
- الثانية: الرضا لله؛ وهو الرضا بعطائه ومنعه؛ فلا يتألم للمنع
- الثالثة: الرضا بالله، وهو أعلى الدرجات؛ أن يكون الله قرة عين العبد، فتستوي عنده الحالات، فلا يبالي عطاء ولا بمنع، ولا بضر ولا بنفع، بل هو قرير العين بالله وحده
______________________
أخرجه البخاري (6549)، ومسلم (2829)
8- الحذر من التسخط؛ فإنه يجلب سخط الله على العبد، فلا يزال يتقلب فيما يسخط الله عليه
9- العبد الرباني إذا رضى عد منع الله عطاء؛ قال شيبان: يا سفيان، عد منع الله عطاء؛ فإنه لم يمنعك بخلاً، وإنما منعك لطفاً، فإذا منعك ما تشتهيه فقد لطف بك
10- الرضا يوجب طمأنينة القلب وبرد القلب وسكونه وقراره، والسخط باب الهم والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الظن وسوء الحال، فالزم الرضا تسترح
11- من الأسباب المعينة على الرضا أن تعلم أنك مملوك لحكيم، فتسلم تسليم مملوك لمالكه الحق الذي تجري عليه الأقدار وهو ساكت ساكن؛ لأنه يعلم أن مالكه حكيم لا يخرج قدره عن حكمة
12- ومن الأسباب أيضاً حسن الظن بالله أنه أرحم بعبده من أمه، وأعلم بمصلحته من نفسه، فيرضى بحسن اختيار الله له
13- من الأسباب المعينة على الرضا العلم أن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ قال تعالى:
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ ٱللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِنۢ بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُۥ ۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1).
اللهم ارزقنا الرضا وأشربه قلوبنا واجعلنا من أهله
______________________
أخرجه ابن جرير في تفسيره (23/ 421)