الحديث الثاني والثلاثون حديث أفئدة الطير
قال مسلم رحمه الله: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الشَّاعِرِ حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ اللَّيْثِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ".
الحكم على الحديث
صحيح مسلم (2840)
أهمية الحديث
1- لأن حديثنا حديث قلوب كان معرفة أنواع القلوب مطلباً
2- أهمية لين القلب ورقته على الدوام
3- التوجيه إلى أهمية الفؤاد الذي هو محل التثبيت؛
{لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۖ} [الفرقان: 32]
فوائد الحديث
1- الغرض من هذا الحديث معرفة قضية الفؤاد الذي هو محل التثبيت، محل اليقين
فلا بد من البداية من معرفة القلب وأجزائه لكي تعرف ما هو الفؤاد وما محله
القلب أربعة أجزاء عرفت بالاستقراء
1- الصدر: وهو الجهة المواجهة للعالم الخارجي، وهو أول ما يستقبل الأحوال، فهو محل الضيق والشرح
قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ} [الأنعام: 125]
2- القلب: وهو محل الإيمان، يتوغل العلم من الصدر إلى القلب فيكتب الإيمان، وهو محل التقل
3- الفؤاد: فإذا ثبت القلب ورسخ فيه الإيمان انتقل إلى الفؤاد، وهو محل اليقين، فيحصل التثبيت
ولنتوسع هنا قليلاً لأن هذا محل الشاهد
الفؤاد محل اليقين، الذي هو سبب الثبات؛ لذلك فإن أم موسى عليه السلام باليقين ألقت طفلها في البحر، ثم بعد مدة خافت وانزعجت فكادت أن تصيح: ولدي ولدي. لخفوت ذلك اليقين الأول في قلبها؛ قال تعالى
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَٰرِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِۦ لَوْلَآ أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]
فالفؤاد محل اليقين، واليقين هو سبب الثبات، لعلها وضحت
وقال تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَٰحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَٰهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]
وقال تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ ۚ وَجَآءَكَ فِى هَٰذِهِ ٱلْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]
وفي كلا الآيتين معنى التثبيت مضاف إلى الفؤاد أيضاً، فظهر أهمية هذا الجزء الخطير من القلب؛ وهو الفؤاد، لذلك وصف الله الزائغين بميل الفؤاد؛
قال تعالى: {وَلِتَصْغَىٰٓ إِلَيْهِ أَفْـِٔدَةُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 1
13]. {وَلِتَصْغَىٰٓ} يعني: تميل وتنحرف. وهذا لفقدان اليقين في الآخرة من قلوبهم مالوا وزاغوا
2- الشاهد أن الفؤاد محل خطير من القلب، وكل جزء من أجزاء القلب الأربعة له صفة وله خواص وله عمل وله مرض وله علاج ستجد تفاصيل هذا في كتابنا الكبير (علم القلوب) يسر الله إتمامه
من أجل ذلك كان هذا الحديث لتعرف كيف يكون الفؤاد سبب دخول الجنة
3- أفئدة الطير قالوا فيها
1- رقيقة رحيمة. 2- ضعيفة
3- خائفة وجلة. 4- نقية طاهرة
5- متوكلة. 6- غريبة متفرد
7- متزهدة
4- الصفة الأولى لأفئدة الطير: رقيقة رحيمة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ قَرِيبٍ مِنْ النَّاسِ" (1)
انظر أخي إلى هذه الصفات المتتابعة؛ هين. . لين. . سهل. . قريب
هل هي فيك؟ هل أنت منهم؟ هل اجتمعت؟ وهي متلازمة لا تفترق؛ فإن كلا منها يستدعي الآخر، هذه صفة أهل الجنة، اللهم اجعلنا منهم
______________________
أخرجه أحمد (3938). وقال الأرنؤوط: حسن بشواهده
والرقة والرحمة هي صفة قلوب الصالحين التي وردت في حديث الصالحين؛ وهو الحديث الثالث في هذه الأربعين
5- الصفة الثانية لأفئدة الطير: ضعيفة
أفئدة ضعيفة لا تحتمل أشغال الدنيا وهمومها وغمومها
أفئدة ضعيفة ليست قاسية ولا متجبرة ولا غليظة؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
وقال صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ " (1).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا؛ بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ" (2).
6- الصفة الثالثة لأفئدة الطير: خائفة وجلة؛ رقت قلوبهم فاشتد خوفهم وزاد على المقدار، فشبهوا بالطير التي تفزع من كل شيء وتخافه.
- كان صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَى النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْغَيْمَ فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عَرَفْتُ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةَ؟ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ، قَدْ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] (3).
______________________
- أخرجه البخاري (4918)، ومسلم (2853).
- أخرجه البخاري (2896)، والنسائي (3178). واللفظ له.
- أخرجه البخاري (3206)، ومسلم (899).
كان الربيع بن خثيم رحمه الله لا ينام، فلما كلموه في ذلك قال: أحشى البيات، أخشى أن ينزل عذاب الله وأنا نائم. وكان عطاء السلمي رحمه الله يقوم من النوم فيتحسس وجهه وجسمه ويقول: أخشى أن أكون قد مسخت وأنا نائم.
هكذا كان خوفهم، إنها حقاً أفئدة كأفئدة الطير!
7- الصفة الرابعة لأفئدة الطير: نقية طاهرة؛ وقد وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظة جميلة عجيبة؛ سئل صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ". قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: "هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ" (1).
يا الله، ما أجمل هذا الوصف لقلب أبيض نقي جميل رائع: مخموم. إنه فؤاد مخموم كأفئدة الطير الصغيرة، لا تسع حقداً ولا تحتمل بغياً! إنها قلوب صغيرة ضعيفة رقيقة قريبة كأفئدة الطير.
8- الصفة الخامسة لأفئدة الطير: متوكلة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرُزِقْتُمْ كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" (2).
قالوا: الطير وحده من صنف المخلوقات لا يعرف الادخار ولا الكنز، يبيت ولا يملك إلا ما في بطنه، ولعله كل يوم يغير عشه، فلا تجده مالكاً بوجه من الوجوه، وهكذا أفئدة المقربين كأفئدة هؤلاء الطير، لا يحسبون للدنيا حساباً، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، قوي إيمانهم، ثم يقينهم، لا يرون الأسباب، وتعلقت قلوبهم بمسبب الأسباب.
______________________
- أخرجه ابن ماجه (4216). وقال الألباني: صحيح. صحيح ابن ماجه (3397).
- أخرجه أحمد (205). وقال الأرنؤوط: إسناده قوي.
أفئدتهم أضعف من أن تحمل هم الرزق فتوكلت على الحي الذي لا يموت، فكفاهم، فعاشوا في كنف من الله وستر، حقاً كأفئدة الطير.
9- الصفة السادسة لأفئدة الطير: غريبة متفردة؛ قال صلى الله عليه وسلم: "فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (1).
الغربة الحقيقية غربة القلب بين الناس، الاستيحاش مما به يأنسون، والأنس بما هم منه يستوحشون، كالطيور وحشية تنفر وتخشى الصياد، فهكذا أفئدتهم تخشى أن يصيدها هم أو يصطادهم هوى أو شهوة أو حظ نفس أو دنيا.
فدوما تنفر ولا تسكن إلا إلى مراد ربها، هكذا أفئدة لا ترى إلا مراد الله منها.
10- الصفة السابعة لأفئدة الطير: أفئدة متزهدة؛ قال أحمد بن أبي الحواري رحمه الله: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: إن صنفاً من الطير تجوعوا أربعين صباحاً، ثم طاروا في الهواء، فلما رجعوا إلى الطير كانوا يعرفون بعد بريح المسك. قال أحمد رحمه الله: هذا مثل ضربوه للناس إذا زهدوا تفكروا، وطارت قلوبهم في ملكوت السماء، فيرجعون ويثني عليهم (2).
11- تفقد صدرك، ثم قلبك، ثم فؤادك، والجزء الرابع اللب.
تفقد فؤادك؛ هل فيه هذه الصفات السبع التي تجلب اليقين والثبات، وإلا فاجتهد فيها ولا تسكت ولا تفتر حتى تحصل عليها.
اللهم ازرع في قلوبنا اليقين وطهرها من الشك ومن كل شهوة تخالف أمرك
______________________
- أخرجه مسلم (145).
- أخرجه أبو الشيخ في العظمة (50).