التوحيد في سورة القيامة
وللقيامة أسماء أخرى سُميت بها سور من القرآن؛ كسورة الواقعة، الحشر، التغابن، الحاقة، الغاشية، الزلزلة، القارعة.
﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 1، 2]، قال العلماء: اللام هنا للتأكيد، وقيل: للقسم، (لَأُقْسِمُ)، وقيل: صلة، والمعنى: أقسم بيوم القيامة؛ (قاله الطبري).
والقسم هنا تعظيم من الله وإجلال لشأن هذا اليوم وخطورته، ماذا لو عاش الإنسان في هذه الحياة لا يحسب ليوم القيامة حسابًا، ولا يفكر أنه سيموت يومًا ما، وأنه سيبعث لا محالة؟
إن الإيمان بيوم القيامة يُمنهج حياة المؤمن، فتراه يخاف الحساب، ويحذر المعاصي أن يقع فيها، ويتورع عن الشبهات، ويتحاشى الظلم، فتجده مراقبًا لربه، محاسبًا لنفسه، كثير اللوم لها، لذا كان القسم الثاني: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، وقال بعضهم: أقسم الله بيوم القيامة، والثاني ليس بقسم، وإنما هو خبر؛ لأن من معاني "اللوامة": التي تلوم على الخير والشر، وقيل: التي تلوم على ما فات وتندم، وقيل: هي النفس الفاجرة، وقيل: المذمومة؛ (ذكرها الطبري)، ولعل ما بعدها يرجح هذا القول، وهو قوله تعالى: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 3، 4]، وهذه هي الحقيقة التي ينكرها كل فاجر لئيم، وهي استبعاد البعث؛ كما قال: ﴿ أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ [النازعات: 11، 12].
إن الله تعالى سيجمع فتات بل ذرات تلك العظام ويعيدها كما كانت في الدنيا، وسيعيد الأنامل وهي أطراف الأصابع بهيئتها، وشكلها وخصائصها التي تميزت وتفردت بها (وهي التي تسمى بالبصمة)!
إن الكفر بالنشور يبعث على الفجور في هذه الحياة، ويمضي الكافر قدمًا في معاصيه، مجاهرًا بها، عابثًا، لاهيًا، غافلًا حتى يأتيه أجله بغتةً، ويأتي يوم القيامة وبعد أن كان (يَفْجُرَ أَمَامَهُ) يسير في كل طرق الشر والعناد، فلن يجد مفرًّا ولا ملجأً ولا مهربًا ولا مأوًى، إلا النار جزاءَ ما قدمه، ﴿ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ﴾ [القيامة: 7 - 10]، أي لا مفر ولا وزر؛ (أي لا حصن ولا ملجأ.. ).
الشمس والقمر لا يجتمعان أبدًا في الدنيا، قد يقف أحدهما مقابلًا للآخر في خسوف أو كسوف، لكن سيأتي اليوم الذي فيه يجتمعان ﴿ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ﴾ [القيامة: 9]، فتنتهي الحياة الدنيا وتبدأ الحياة الآخرة: ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48].
ويأتي يوم القيامة فينبأ الإنسان بما قدَّم وأخر، ويكون هو البصير والشاهد على نفسه، وستشهد عليه جوارحه وجلده، فلا عذر له، فقد أرسل الله تعالى إليه رسولًا وأنزل عليه كتابًا، وبلغه رسالة التوحيد، ولكنه اختار طريق الشرك والغواية، وكفر بربه الذي أنعم عليه بنعمة الوجود، والخلق القويم، ولكنه جحد فلا عذر له، ولكيلا تزول الحجة، ولا يبقى عذر، ضمِن الله تعالى، وتكفل بحفظ كتابه من التحريف ومن الزيادة والنقصان، وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصًا على تلقي الوحي، فكان يحرك لسانه مع قراءة جبريل عليه السلام، فطمَأَنه وقال له: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 19]، وفي تأويل قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾، يقول القرطبي: (ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وإنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع؛ لأن بعضه مرتبط ببعض، وقوله: ﴿ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾؛ أي: فاتَّبع شرائعه وأحكامه).
والمؤمنون سيرون الله تعالى في الجنة؛ لقوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23] ولقوله تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، ولما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهَنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، وفي رواية: ثم تلا: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، وكما بُدئت السورة بإثبات جمع العظام البالية، وتسوية البنان وإعادتها كما كانت في الدنيا، ختمت بإثبات إحياء الموتى، وأن هذا ليس بعيدًا عن قدرة الله الذي بدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم علقة ثم سوَّاه وصوَّره كيف شاء، وقدر أن يكون هذا ذكرًا وتلك أنثى: ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 40]؟ بلى قادر، وبين الحياة والموت تكليف واختبار وابتلاء، وإلا كانت الحياة سدى، والخلق عبثًا: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [القيامة: 36]؟ وتعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.