محاسبة النفس


صالح أحمد الشامي

قال الله تعالى:

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ ۖ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا كَٱلَّذِينَ نَسُوا ٱللَّهَ فَأَنسَٰهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ}

[الحشر: 18 - 19]

هذه الآية الكريمة أصل في محاسبة النفس.

فقوله: 

{مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍۢ} 

غد: هو اليوم الذي يأتي بعد اليوم الذي أنت فيه، والمراد هنا: يوم القيامة، وإنما عبر عنه بذلك للنظر إلى قربه، وأنه ليس ببعيد.

وقوله: 

{وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ} 

أي تنظر فيما قدمت وادخرت من الأعمال، فإن كانت صالحة حمدت الله تعالى، وإن كانت غير ذلك بادرت إلى التوبة والاستغفار ورد الحقوق إلى أصحابها.

وهذه المحاسبة أمر مهم، لأنها الميزان الذي يصحح المسار، وإنما يداوم عليها من كُتبت له السعادة.

وقد اعتنى بهذا الأمر السلف الصالح ابتداءً من الصحابة ومن أتى بعدهم:

* قال عمر رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، تزينوا للعرض الأكبر 

{يَوْمَئِذٍۢ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ}

[الحاقة: 18]

* وكتب إلى بعض عماله فقال: أن حاسب نفسك قبل حساب الشدة، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة، عاد مرجعه إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغله مهواه؛ عاد مرجعه إلى الندامة والحسرة.

* وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتفاعي بكتاب كتب به إلي علي بن أبي طالب، فإنه كتب إلي:

أما بعد: فإن المرء يسؤوه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحاً، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزناً، وليكن همك فيما بعد الموت.

* وقال الحسن البصري: لا يزال العبد بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته.

وإنما المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة.

* وقال الحارث المحاسبي: اجعل المراجعة شغلاً لازماً، وكن وقافاً، كما قال الأول: المؤمن وقاف، وليس كحاطب ليل.

قف وطالع زوايا ضميرك بعين حديدة النظر، نافذة البصر.

فإذا رأيت امراً محموداً، فاحمد الله، وامضٍ، وإذا رأيت مكروهاً، داركته بحسن المراجعة، واستقصيت فيه.

* وقال ابن القيم: إذا كان العبد مسؤولاً ومحاسباً على كل شيء، على سمعه وبصره وقلبه، كما قال تعالى: 

{إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰٓئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْـُٔولًا}  

[الإسراء: 36]

فحقيق به أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب.

إن النظر فيما يقدم الإنسان لغده، أخذ من تفكير السلف مساحة كبيرة، وكان عامة القوم يحاسب الإنسان منهم نفسه على ما صدر منه في يومه قبل نومه، فإن وجد خيراً حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر الله، وإن وجد حقاً للناس عزم على إرجاعه لأهله في اليوم التالي.. وعزم على الاستقامة في اليوم التالي إن كُتبت له الحياة.

وكان بعضهم يجري هذه المحاسبة بعد صلاة الفجر.

* قال سفيان الثوري: انظر - يا أخي - أن يكون أمرك ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس: التفكير في يومك الذي مضى، فما كان من طاعة الله فاستقم عليه، وما كان من معصية فانزع عنها، ولا تعد فيها يديك، فإنك لا تدري أتستكمل يومك أم لا، وإن التوبة مبسوطة، وترك الذنب أيسر عليك من طلب التوبة النصوحة هي الندامة لا رجعة فيها.

تلك أقوال بعض الأئمة في أمر حساب النفس، بناء على ما فهموه من الآية الكريمة.

وفي الآية ثلاثة أوامر:

الأول: الأمر بتقوى الله تعالى، وهو نص عام.

والثاني: الأمر بمحاسبة النفس، وهو النظر في الأعمال التي قدمها لنفسه، وهو أمر خاص بعد الأمر العام.

والثالث: الأمر بتقوى الله، وهو تأكيد للأمر الأول، وربما كان تأكيداً للأمر الثاني بمعنى الإخلاص في محاسبة النفس.

والآية الثانية مشعرة بسياقها أن من لم يعمل بالآية الأولى يكون من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم فكانوا من الفاسقين.

وهو تأكيد أخر ضمني دافع إلى الالتزام بالعمل بما ورد في الآية الأولى مما يشعر بمكانة هذا الأمر الذي يعني المراقبة الدائمة للنفس وتقويم سلوكها.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ محاسبة النفس

  • السادس مما يعين علي الإخلاص : المحاسبة

    الشيخ / خالد بن عثمان السبت

    محاسبة النفس على الخطرات و الإيرادات و النيات ، يسأل نفسه دائماً و يحاسبها ، ماذا أردت بهذا العمل ؟ ماذا أردت بهذه

    08/07/2018 2145
  • أهمية محاسبة النفس

    الشيخ محمد حسان

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له،

    18/02/2014 3627
  • دعوى محاسبة المسيح الناس

    فريق عمل الموقع

     يزعم النصارى أن المسيح عليه السلام سوف يتولَّى يوم القيامة محاسبة الناس وإدانتهم، ولهم على ذلك نصوص من إنجيل

    25/01/2010 4118
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day