كيف نتعامل مع الشبهات الفكرية المعاصرة ؟


أحمد يوسف السيد

إن إحسان التعامل مع هذه الموجة من الشبهات يقتضي العمل على ثلاثة محاور: .

محور الوقاية لمن لم يتأثر بها، ومحور العلاج لمن تأثر، ومحور الجدل والحوار مع مثيريها.

ولذلك سأتناول في الصفحات القادمة هذه المحاور الثلاثة عبر قواعد منهجية لكل منها، لتكون كما يلي:

أولا: قواعد وقائية من الشبهات الفكرية المعاصرة.

ثانيا: قواعد للتعامل مع الإشكالات والشبهات بعد ورودها.

ثالثا: قواعد حوارية ومهارات جدلية لنقاش مثير الشبهات.

القاعدة الأولى: تعزيز اليقين بأصول الإسلام:

من القناعة التي خرجتُ بها بعد التماس مع واقع تساؤلات الشباب، أنه لا بد من الاهتمام الجاد بطرح دلائل أصول الإسلام بصورة عقلية تزيد الايمان وتعزز اليقين وتحمي القلب من لهيب الشكوك، وأن القلب اذا لم يكن موقنا بهذه الأصول عارفا ودلائلها فإنه يكون سريع الشك، قريب الاضطراب.

وهذه القضية مع حضورها الكبير في القرآن، ومع شدة الحاجة إليها إلا أن العناية بها ليست على القدر الذي ينبغي لها، ولذلك؛ لم يكن غريبا أن يتأثر كثير من أبناء المجتمع المسلم بموجات التشكيك في الله سبحانه أو في كتابه أو رسوله عليه الصلاة والسلام.

ولأجل أهمية هذه القاعدة الوقائية فسأتحدث عن بعض الوسائل العملية التي تدعمها.

وسائل تعزيز اليقين:

1. إحياء واشاعة عبادة التفكر في آيات الله الكونية.

لقد جاء في كتاب الله توضيح العلاقة بين الفكر وبين إدراك الحقائق الكبرى، فقال الله سبحانه وتعالى:

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} 

فانهم بعد تفكر استدلوا بخلق السماوات والأرض على نفي العبثية العشوائية.

وكذلك فإن التأمل والتفكر في النفس وفي الآفاق يؤدي الى اليقين بصحة القرآن

{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} 

والضمير في (أنه) عائد الى القرآن، وهي من الآيات التي تستوقف المتأمل كثيرا.

وقد ذم الله سبحانه وتعالى المعرضين عن التفكر في آياته فقال:

{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا ۖ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}

وأرجو ألا تكون المدنية الحديثة سببا في حجبنا عن عبادة التفكر في السماء والنجوم والنفس والحيوان.

ومن وسائل إحياء واشاعة عبادة التفكر:نشر المواد المرئية والمقروءة التي تخدم مجال التفكر والتأمل

ان كثيرا من المواد المرئية المتعلقة بالكون والإنسان والحيوان والبحار تعين على التفكر في آيات الله، وممن كان يحرص على إبرازها في برامجه د. مصطفى محمود رحمه الله تعالى، وكان لها أثر طيباً

عمل مسابقات على أفضل إنتاج مواد مرئية أو بحوث مكتوبة في هذا المجال.

عمل مسابقات أسئلة أو تلخيص لمواد سابقة منشورة في هذا المجال.

ثاني الوسائل لتعزيز اليقين

اشاعة عبادة التفكر في آيات الله الشرعية، وربط الناس بالقرآن، فقد أنزله الله سبحانه ليرشد الناس الى الغاية التي خلقوا لأجلها، ولا يعرفهم بنفسه، ويخبرهم بالبعث والنشور والحساب والجزاء، ويثبت لهم ذلك بالأدلة البينة القاطعة، ولا يزال القرآن ولن يزال غاسلا للشكوك، معززا لليقين، نافثا روح الإيمان في نفوس من أراد الله بهم الخير.

ثالثا: العناية بالكتب التي اهتمت ببيان دلائل صحة أصول الإسلام، وقد كتب العلماء قديما وحديثا في هذا المجال، فنجد كثيرا من المتقدمين كتبوا في إعجاز القرآن للخطابي والرماني والباقلاني والجرجاني وغيرهم، كما نجد أكثر من ذلك في باب دلائل النبوة ككتاب أبي نعيم الأصبهاني، والقاضي عبد الجبار، والبيهقي، وغيرهم كثير. غير أني سأذكر بعض الكتب المعاصرة في هذا المجال والتي يمكن أن تدرج في برامج القراءة الجماعية أو تكون ضمن مسابقات تلخيص كتاب ونحو ذلك.

كتاب النبأ العظيم لمحمد عبدالله دراز، وما أجمله من كتاب يتحدث عن دلائل صحة القرآن، وصدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بعبارات أدبية رشيقة، وتعبيرات بيانية تلامس المشاعر والوجدان. وله كذلك كتاب آخر في نفس الموضوع وهو: مدخل الى القرآن الكريم.

كتاب براهين وأدلة ايمانية لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني رحمه الله.

كتاب نبوة محمد من الشك الى اليقين لفاضل السامرائي.

كتاب الأدلة العقلية النقلية على أصول الاعتقاد لسعود العريفي، وهو كتاب كبير، ذو مستوى عالي من التحريرات العلمية.

كتاب كامل الصورة الجزء الثاني منه.

رابعا: الاهتمام في الخطاب الدعوي بالحديث عن الله وصفاته وعظمته ووحدانيته.

لقد حظي باب (توحيد الألوهية) في الدرس العقدي المحلي بنصيب كبير من الاهتمام، وكان لذلك أثر طيب في توعية الناس بهذا الباب، ولكن لم يحظ قرينه وسابقه (توحيد الربوبية ) بالاهتمام المستحق له، مع أن القرآن مليء بالحديث عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، بل ان أول ما نزل من القرآن قول الله سبحانه:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿٣﴾} 

والحاجة الوقتية ماسة للحديث عن هذا الباب وادراجه في مختلف وسائل وأبواب الخطاب الدعوي.

خامسا: الاهتمام بعبادة القلوب في الدعوة والعلم والعمل.

لقد كان إبراهيم الخليل عليه السلام منيبا متوكلا خاشعا لله سبحانه، وكان من الموقنين، فحين حاجه قومه في الله سبحانه، قال لهم

{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّـهِ وَقَدْ هَدَانِ} 

 إنهم لا يشعرون بما يملأ صدره وقلبه من اليقين والمعرفة والنور، انه لا يمكن أن يستبدل هذا النعيم الإيماني بغيره، وهل يستبدل الأمن بالخوف؟ والطمأنينة بالاضطراب؟

ولذلك؛ نقرأ في الآية التالية:

{فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}

وهناك عبارة مشهورة لأحد عباد السلف يقول فيها " لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف " ؛ أترون من يشعر بهذا الشعور تؤثر فيه الشبهات؟

وهناك معادلة ايمانية جميلة ذكرها هرقل حين كان يسأل أبا سفيان عمن كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان – وهو حينئذ كافر -: لا فقال هرقل: وكذلك الايمان، حين تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.

ان الوقاية من شبهات الشك والكفر والإلحاد لن تكون لقلب لم يذق حلاوة الايمان؛ اذ انه لن يشعر بالخسارة والفقد لو تركه، وأما من ذاق طعم الإيمان ولذته فلن يرضى بأي بديل آخر؛ ولذلك كله؛ فإن العناية بتقوية إيمان القلب، وتعلقه بالله سبحانه، وتوكله وانباته وخشيته ومحبته ورجائه، لمن أكبر أسباب الوقاية من الشبهات، فأين حضور هذه القضية في خطابنا؟ وهل أعطيناها القدر الذي تستحقه؟

ألم تكن محل عناية حقيقية في القرآن؟ وفي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام أهل العلم ؟.

إن مما لا شك فيه ولا ريب أن كثيرا من الشبهات منشؤها ضعف الإيمان وعدم تذوق حلاوته، ولذا نحن بحاجة الى مراجعة ايماننا وقلوبنا وأعمالنا وصدقنا مع الله سبحانه، وهذا كله من الوقاية والمناعة القوية ضد الحرب الفكرية الموجهة إلى الإسلام وثوابته.

ومن الكتب التي اعتنت بهذا الباب، كتب الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، وخاصة كتابه: مدارج السالكين، وقبله كثير من المتصوفة والمتنسكة والعباد، لهم كلام متفرق ومجموع فيه.

سادسا: قصص المسلمين الجدد، فإن لها أثرا كبيرا في الارتياح الايماني، وخاصة حين ترى تنوع تخصصاتهم، واختلاف بلدانهم، وأنهم إنما دخلوا في الإسلام عن قناعة، ورضا، وشعور بالأفضل، هذا كله مع شدة التشويه الذي يمارس ضد الإسلام والمسلمين، ثم نجد تزاحم الغربيين والشرقيين على بوابة الإسلام!

والجميل في قصص هؤلاء أنهم يقفون على معان إيمانية ربما تفوتنا، فإنهم يقرؤون القرآن بعين متشوفة، وقلب متطلع الى معرفة كلام الله سبحانه، وقد ذاقوا مرارة الكفر والحيرة قبل ذلك، وقد كنت ألمس ذلك وأنا أشاهد حلقات برنامج (بالقرآن اهتديت) لفهد الكندري وفقه الله، وهو من أجمل البرامج في هذا المجال، وأرشح حلقاته للعرض والنشر في البرامج العائلية والمدرسية لتحقيق غرض تعزيز اليقين.

القاعدة الوقائية الثانية: تكوين العقل الناقد:

العقل الناقد: هو العقل الفاحص؛ الذي لا يقبل دعوى دون دليل، ولا يقبل الأدلة الفاسدة، ولا تمرر عليه المغالطات المنطقية.

إن كثيرا من الشبهات التي أثرت على شريحة من الشباب كان من أهم عوامل تأثيرها: غياب التفكير الناقد، والعقلية الفاحصة؛ ولذلك فإن العناية بغرس معاني التفكير الصحيح، القادر على التمييز بين المقبول والمردود من المعلومات، يعتبر أمرا مهما جدا في التحصين من الشبهات وتعزيز المناعة الفكرية.

وقد اعتنى علماء المسلمين بالفحص والتدقيق في المعلومات قبل قبولها، ومن أبرز الصور التي تمثل ذلك: ما أنتجه علماء الحديث من منظومة فحصية مذهلة، نقدوا بها رواة الحديث، ولم يغتروا بمجرد المظاهر، وقارنوا بين الروايات، وضعفوا المنقطات، واكتشفوا الكذابين، حتى صار منهجهم النقدي مأمونا على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك اعتنى علماء المسلمين ببيان أسس الجدل الصحيح، والمناظرة المثمرة، وتحدثوا عن الحجج المقبولة، والدعاوى المردودة، وغير ذلك مما يستدعي الفحص والتدقيق في كتب ((آداب البحث والمناظرة)) أو ((علم الجدل)).

وما سبق كله يختلف عن العقلية المتشككة المولعة ب (لا أدري) و(ربما) و(ما يدريني )، فإن تميز العقل الناقد ليس بمقدار ما يرده ويشكك فيه من الأخبار، وإنما بمقدار ما يلاحظه من عوامل وقرائن تستدعي الرد، وأخرى تقوي القبول.

ولا شك أننا نحتاج الى دورات في هذا الجانب، و محاضرات، وتطبيقات عملية ترشد إلى التطبيق الصحيح للتفكير الناقد وتميز بينه وبين التفكير السلبي المتشكك، ويمكننا أن نربي أبناءنا على التفكير الناقد بتطبيقه على ما يسمعونه من أخبار وآراء في المدرسة وبين الأصدقاء، فيتم تدريبهم عليه بمحاكمة هذه الأخبار الى مبادىء التوثيق والتحليل السليم.

ومما يساهم في تقوية أدوات العقل الناقد: أن يكون على دراية بطرق البحث العلمي ومهاراته، فالعقل الناقد يحتاج إلى معرفة بمصادر المعلومات وكيف يتعامل معها ليثبت ويدقق، ولذلك نحن بحاجة إلى تقديم دورات في كيفية البحث الالكتروني والورقي عن المعلومة من المصادر الموثوقة، وفي كيفية البحث عن صحة الحديث في الشبكة والكتب.

القاعدة الوقائية الثالثة: التأصيل الشرعي:

والمراد بالتأصيل الشرعي: دراسة أصول الفنون الشرعية (العقيدة ،الفقه، أصول الفقه، المصطلح، اللغة، علوم القرآن )، وهذا الأمر مهم جدا؛ لأنه يكون عند المتعلم قاعدة معرفية صلبة يؤول إليها ويستند عليها، بخلاف من يفتقد هذه القاعدة فانه لا يكون له أساس محكم.

ومما يساعد على نشر هذا الأمر الوقائي: تسهيل العلوم الشرعية، وتقريبها للشباب، وتقديمها في دورات مختصرة، بأسلوب حديث، ووسائل تعليمية معينة؛ ليستحضر من يقوم بهذا العمل أنه يؤدي دورا مهما في الوقاية من الشبهات الفكرية المعاصرة.

ومن الجهود الجيدة في تحقيق هذا التسهيل، ما يقدمه الدكتور عامر بهجت في دوراته المتميزة في الفقه وأصوله، وهي مرفوعة على موقع (يوتيوب) بعنوان (تنبيه الفقيه ) و (الطريق الى أصول الفقه) وغيرها. .

ومن الأمور المنهجية المهمة التي تقتضيها هذه المرحلة: الاعتناء – في الدرس الشرعي – بتثبيت الثوابت، وعدم الاقتصار على شروح المتون أو التعليق عليها والتفريع على نصوصها، بل ينبغي أن يزاد على ذلك ما يثبت صحة أصول تلك المسائل المقصودة بالشرح والتوضيح؛ فإن التعويل على اشتراك المستمع والمتحدث في التسليم بصحة الأصل المشروح إنما كان سائغا في المرحلة السابقة التي تختلف عن هذه المرحلة التي تموج بأسئلة متوجهة إلى الأصول والثوابت، مما يستدعي أن يكون طالب العلم جامعا بين فهمه لألفاظ الفقهاء وقواعد الأصوليين والمحدثين وبين ما يثبت صحتها ويقرر أصولها.

لو قال قائل: إن من يحضر الدرس الشرعي لا يكون متأثرا بالإشكالات المثارة ضد الثوابت، فلا حاجة لما ذكرت.

فالجواب أن طالب العلم مهما افترضنا عدم تأثره الإشكالات والشبهات، فإنه لا ينفك عن احتياجه – في ظل ذلك – الى معرفة البراهين وصحة الأصول كي يكون قادرا على الجواب عما يرد عليه من اعتراضات و استشكالات – اللهم إلا إن أراد إن يعتزل الناس ويبتعد عما يشغلهم-.

ومما يحقق هذا العرض دون إشكال: العناية بتقديم مداخل للعلوم قبل البدء بالشروح، وتضمن هذه المداخل أدلة عامة تثبت صحة أصول العلم المقصود بالدرس، وسبب الاعتناء به، وما الآثار السلبية المترتبة على تركه واستبعاده والاستغناء عنه.

القاعدة الرابعة: تحديد مصادر التلقي والمعرفة والموقف من كل مصدر:

ما المصادر التي نعتمد عليها في تكوين المعرفة؟ وما حدود كل مصدر؟ وهل بينها تداخل؟ وما مصادر التلقي الشرعية التي لا يصدر عنها خطأ؟ وما مصادر الاستفادة الشرعية التي يمكن أن تخطئ وتصيب؟

كل هذه الأسئلة تهم الجيل، واذا قُدمت الاجابة عنها بصورة صحيحة فإنها تنظم العقل، وتبين مداخله ومخارجه فيما يعتمد عليه لتكوين المعارف، وبالتالي يكون ذلك من وسائل الوقاية المحتاج إليها في هذا الوقت.

فإن من أكبر أسباب الاضطراب الفكري المعاصر الانحراف في باب مصادر المعرفة، اذ ان كثيرا من الملحدين – وخاصة في العالم الغربي – لديهم موقف سلبي تجاه المصادر التي يكتسب الإنسان منها المعرفة باستثناء الحس والتجربة التي يغالون باعتبارها المصدر الوحيد لاكتساب المعرفة؛ مما أدى بهم الى رفض الأدلة العقلية المثبتة لوجود الله والتي لا تعتمد على الحس المباشر ولا تندرج ضمن إطار العلوم التجريبية، فضلا عن رفضهم لعلوم الوحي التي مصدرها الخبر الصادق المبني على دلائل العقل المسبقة، وكثير من السجالات الفكرية بين المؤمنين والملحدين يتم التعرض فيها لقضايا متعلقة بالمعرفة؛ ولذلك فإن العناية بفهم نظرية المعرفة وفروعها ومن أهم ما ينبغي على الباحث المسلم المعاصر.

ومن أراد أن يأخذ فكرة عامة عن المعرفة وطبيعتها ومصادرها فان للشيخ عبد الله العجيري محاضرة مرئية في موقع يوتيوب بعنوان ((مدخل لفهم نظرية المعرفة)) وتصلح في المرحلة الأولى لتكوين التصور العام تجاه هذه النظرية ومتعلقاتها وطبيعة المعرفة في الإسلام، ثم يحسن الانتقال إلى كتاب مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي للدكتور عبد الرحمن بن زيد الزنيدي، ثم كتاب المعرفة في الإسلام للدكتور عبد الله القرني – وهو كتاب متميز غير أن فيه صعوبة على المبتدئ والمتوسط -، ثم الانتقال الى كتاب الدكتور عبد الله الدعجاني في موقف ابن تيمية رحمه الله من المعرفة بعنوان ((منهج ابن تيمية المعرفي )) وهي رسالة جميلة مفيدة نافعة وفيها أيضا صعوبة على المبتدئ والمتوسط.

كما نستطيع بالاجابة عن الأسئلة السابقة أن نفرق بين المصدر الشرعي المعصوم وبين المصدر غير المعصوم، فالقرآن والسنة لا يصدر عنهما خطأ، وكذلك اجتماع أفهام علماء المسلمين على أمر معين من أمور الشرع – اذا ثبت هذا الاجتماع – وأما الفذ – أي: الفرد – من العلماء فانه مهما بلغ من المنزلة العلمية فلا يرقى لأن يسلم بكل أقواله، ولو كان أبا حنيفة أو مالك بن أنس أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله تعالى جميعا.

ومما يدخل في هذه القاعدة المهمة: موضوع التسليم للنص الشرعي، وعلى أي شيء يستند، ومن المراجع المهمة في جانب التسليم: كتاب ينبوع الغواية الفكرية لعبد الله العجيري، و كتاب التسليم للنص الشرعي لفهد العجلان.

القاعدة الخامسة: عدم التعرض لخطاب الشبهات من غير المتخصص:

من المهم لمن يتخصص في الرد على الشبهات أن يكون عارفا بتفاصيلها وقائليها وتاريخها، وربما يحتاج الى قراءة بعض كتبهم، أو الدخول الى بعض مواقعهم وصفحاتهم، حتى يحسن الجواب عنها، وأما غير المتخصص فان في دخوله الى عالم الشبهات مخاطرة غير مأمونة العواقب، ولا أعني بالدخول هنا:

معرفة الرد على أبرز الشبهات وما يتعلق بذلك، وانما أقصد القراءة لكتبهم، أو استعراض تغريداتهم ومشاركاتهم في شبكات التواصل، اما من باب التعرف على ما عند (الآخرين)، أو من باب الفضول وتضييع الوقت، أو من باب الثقافة العامة ونحو ذلك، وأنا أعرف من دخل الى صفحات وحسابات إلحادية بدافع حسن فتأثر تأثيرا سلبيا كبيرا ما كان يريده ولا يظنه، وهذا يذكرنا بتحذيرات السلف الصالح من الاستماع الى أهل البدع؛ لأن القلوب ضعيفة والشبه خطافة – كما قال الذهبي رحمه الله تعالى -.

القاعدة السادسة: القراءة الوقائية في كتب الردود على الشبهات، بشروط:

1. أن تكون الشبهات معاصرة ومنتشرة، أو بتعبير عصري: أن تكون في دائرة الخطر.

2. أن تكون من الكتب التي تجمل في ذكر الشبهة وتفصل في الرد، وليس العكس؛ فإن بعض الكتاب يفضل في عرض الشبهة، ويذكر مستنداتها وأصولها، وهذا جيد بالنسبة للمتخصصين، ولكن نحن نتكلم هنا عن وقاية غير المتخصصين، في قراءتهم للشبهة المفصلة المذكور أدلتها بتفصيل لا حاجة لها.

3. أن يكون الرد محكما، ويعرض هذا عن طريق المتخصصين.

ومن الكتب المناسبة في مجال الرد على الشبهات المعاصرة وتقرأ على سبيل الوقاية: كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي لمصطفى السباعي، وكتاب كامل الصورة بجزئيه الأول والثاني.

القاعدة السابعة: ترتيب هرم الغائيات الكبرى على حسب مراد الله:

ان كثيرا من الإشكالات المعاصرة حول الإسلام إنما كان منشؤها بسبب اختلال هرم القضايا الغائية الكبرى عند أصحابها، وأعني بالقضايا الغائية: المطالب الإنسانية الكبرى كالتعبد والاستقرار والحرية والعمران وتحقيق الذات وقضاء الشهوة واكتساب الأموال ونحو ذلك، وإذا أخذنا قضيتين غذائيتين يشترك في تقديم كل منهما على الأخرى طوائف كثيرة من البشر وهما: تحقيق التعبد لله تعالى على مراده (مركزية الرحمن)، وتحقيق الرفاهية التامة والحرية المطلقة للانسان على مراده (مركزية الإنسان). فمن يجعل على رأس الهرم الغذائي للوجود: مركزية الانسان فانه سيقدمها حال التعارض مع أحكام الله وأوامره؛ الأولوية عنده ما يسهم في رفاهية الإنسان وفي حريته واختياراته وشهواته مهما كانت سيئة وشاذة عن الفطرة أو مخالفة لأمر الله. وإذا نظر المتأثر بهذه الثقافة المقدمة لهوى الإنسان وحريته الى الأحكام الاسلامية – التي يظهر فيها تقديم اتباع أوامر الرحمن والتعبد له على كل شيء آخر ويفاضل فيها بين الناس على قدر تقواهم واتباههم لنظام الله سبحانه وتعالى – فإنه يستشكل هذه الأحكام لأنها تتعارض مع مركزية الإنسان في نظره، فصار منشأ الإشكال هنا هو اختلال هرم الأولويات الكبرى لديه.

من هنا ندرك أن كثيرا من الاستشكالات المثارة ضد بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالكفار كالجزية وعقوبة المرتد إنما سببها هذا الاختلال في الهرم وان غلفت بغير ذلك، ولا أخفي القارىء الكريم أن أكثر الأسئلة التي أحمل الجواب عنها ما كان منشئها اضطراب هرم الغائيات عند أصحابها، لأن كثيرا منهم يسألون وهم غير مدركين لمنشأ الاستشكال لديهم؛ فيتعلقون بطرف من الحجج يظنون أنه هو محل الاشكال وباعثه ولا يكون ذلك مطابقا للواقع، فيتطلب الجواب عن أسئلتهم قدرا طويلا من التمهيد و التقدمة المتعلقة بترتيب هرم الغائيات الكبرى.

ومن الكتب المهمة جدا في هذا الموضوع: كتاب مآلات الخطاب المدني لإبراهيم السكران.

القاعدة الثامنة: تعزيز البرامج الجماعية المفيدة فكريا وعاطفيا:

إن انتماء الشباب الى البرامج الجماعية التي تجتذب اهتمامه، ونشاطه، سواء على نطاق العائلة أو الأصحاب يعطيه غناء معرفيا وعاطفيا، ويقطع الطريق على كثير من أنواع الفساد للتسلل الى دائرة اهتماماته وجهوده؛ انها تعطيه فرصة لاكتشاف قدراته، ثم الشعور بالثقة والهوية، وهذا يشكل مانعا نفسيا من الاندفاع المضاد للأفكار غير الصحيحة.

فمن المهم جدا الاعتناء بالبرامج العائلية المفيدة، التي تعطي مساحة من الحوار والفكر، مثل برامج القراءة الجماعية ومن ثم النقاش في القدر المقروء، وكذلك الأندية الثقافية الي يديرها الثقات الحريصون على الهوية الاسلامية، ونحو ذلك من البرامج؛ فهذا كله مما يساعد في تعزيز المناعة الفكرية، والوقاية من الشبهات المعاصرة.

ومن اللطيف في موضوع الصحبة وأثرها في الثبات أنها من وسائل تحقيق حلاوة الإيمان كما في الحديث: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان. .. وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله"، ومن ذاق حلاوة الإيمان فلن ينتقل الى مرارة الكفر والحيرة والشك.

القاعدة التاسعة: الدعاء والابتهال:

اعتدنا على الدعاء لمن يسافر بأن يحفظه الله من الأخطار، ويقيه الشرور، ويرده سالما، وفي الواقع فكلنا مسافرون في هذه الحياة مقتربين في كل مرحلة من الأجل، وكثيرة هي الأخطار المحتملة في هذا السفر، تحتاج الى عناية الله وحمايته لنا، وأثمن ما نخاف عليه في هذا السفر هو إيماننا الموصل الى مرضاته سبحانه عنا، قال إبراهيم الخليل عليه السلام

{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ} 

وقال محمد صلى الله عليه وسلم

"اللهُم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت؛ أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني؛ أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون ". 

وفي غمرة الشبهات وخطرها وكثرة الساقطين فيها فإننا بحاجة ماسة الى الدعاء بأن يقينا الله وأهلينا وذرياتنا شرها، و يحفظ علينا إيماننا وتوحيدنا.





السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ كيف نتعامل مع الشبهات الفكرية المعاصرة ؟

  • الخير المنطوي ضمن موجة الشبهات الفكرية المعاصرة

    أحمد يوسف السيد

    لا أحب أن أكون متشائما مهما كان الواقع مليئا بالتحديات، والله سبحانه لا يخلق شرا محضا، وحين نتلمس جوانب هذه الموجة

    24/11/2021 816
  • مقدمة

    أحمد يوسف السيد

    احتلت الحروب موقعا بارزا في التاريخ الإنساني، وقطعت حصة كبيرة من جسده، وهي تكشف جزءا من الطبيعة البشرية وما فيها

    22/11/2021 635
  • النوع الثاني من المؤثرات: عوامل داخلية

    أحمد يوسف السيد

    ان العوامل الخارجية التي تساهم في التأثير بالتشكيكات المعاصرة في الإسلام وثوابته، لا تعمل عملها الحقيقي إلا بوجود

    27/11/2021 843
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day