الشبهات حول اسم الله (الرزاق)
الشبهة الأولى:
يقول القائل: إذا كان الله " خير الرازقين " : من هم الرازقون ؟ .
الرد عليها:
الجواب من وجوه:
أولاً:
ذكر الله تعالى عن نفسه أنه ( خَيْر الرَّازِقين ) في خمسة مواضع وهي : المائدة/ 114 ، الحج/ 58 ، المؤمنون/ 72 ، سـبأ/ 39 ، الجمعة/ 11 .
ثانياً:
لم يمنع إطلاق صفة الرزق وفعلها على رب العالمين أن تُطلق على المخلوقين ، كما في قوله تعالى
( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ) البقرة/ 233
وقوله ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) النساء/ 5
وقوله ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) النساء/ 8
ولذا تجد معنى " الرازق " في كتب التفسير : السلطان ، والسيد ، والوالد ، والقريب الغني .
وليس ذلك بمشكل عند أهل العلم ؛ لأننا نعتقد أن الفرق بين رزق العباد ورزق الله تعالى هو الفرق بين المخلوق والخالق ، والعبد والمعبود ، وهو كما وصف الله تعالى نفسه بالعلم ووصفه عباده بالعلم ، وعلم العباد سُبق بجهل ويلحقه نسيان ، وأما الرب تعالى فلا يضل ولا ينسى ، وهو – أيضاً - كما وصف الله تعالى نفسه بالخلْق ووصف عباده به ، وخلْق العبيد ليس من العدم إنما هو تحويل مادة لأخرى ، وهو خلق ناقص كنقصهم ، وقاصر كقصر أفهامهم ، وقابل للهلاك كقابليتهم – وانظر تفصيلاً وافياً لهذا في جواب السؤال رقم ( 149122 ) - .
ثالثاً:
بتأمل يسير للفرق بين رزق الله تعالى لخلقه ورزق العباد تتبين فروقات عظيمة ، وبه يُعلم أنه إنما أُطلق على العباد لفظ " الرزق " وفعله بحسب حالهم اللائق بهم من الفقر والضعف والحاجة والعبودية .
ومن هذه الفروقات :
1. رزق الله تعالى لا ينفد ، وأما رزق العباد فمهما عظم فهو قابل للنفاد .
قال تعالى
( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) النحل/ 96
2. رزق الله تعالى لا يُقطع عن الكافر والفاجر ، والعباد لا يرزقون المخالف لهم فضلاً عن الشاتم لهم والكافر بهم .
قال تعالى
( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) البقرة/ 126
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ أبي موسى الأشعري قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
( مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ )
رواه مسلم ( 2804 ) .
وقال تعالى
( كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الإسراء/ 20
قال الحسن البصري – رحمه الله - :
كلاًّ نعطي من الدنيا : البرّ والفاجر .
" تفسير الطبري " ( 17 / 411 ) .
3. رزق الله في الدنيا والآخرة ، ورزق العباد محدود بقدر يسير وفي الدنيا فقط .
قال تعالى
( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة/ 25
4. رزق الله لكل مخلوقاته حتى البهائم ، والعباد لا يملكون ذلك مهما بلغت أموالهم .
قال تعالى
( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) هود/ 6
وقال ( وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العنكبوت/ 60
5. رزق الله مخلوق من عدم – ومنه المطر والذهب والثمر - ولم يكن بيد غيره قبله بلا شك ولا ريب ، ورزق العباد موروث عمن قبلهم وتتناقله الأيدي ، ولا يخلقون شيئاً من عدم ، ثم هو ـ فوق ذلك كله ـ مستفاد من خزائن الله تعالى وعطائه لعباده .
قال تعالى
( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد/ 16
وقال ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) الواقعة/ 68 ، 69
6. رزق الله تعالى مملوك له لا يشاركه فيه أحد ، ورزق العباد ملَّكهم الله تعالى إياه ، ولولا تسخير الله تعالى لهم أسبابه ما ملكوه .
قال تعالى
( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) النحل/ 7
وقال ( وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) النور/ 33 ، وقال ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) الحديد/ 7
وقال ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) فاطر/ 13
6. رزق الله لكماله وعظمته ورحمته ، ورزق المخلوق لفعل واجب أو تحصيل ثناء أو رجاء ثواب ، ولو ملك الإنسان خزائن الرزق لبخل بالإعطاء .
قال تعالى
( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ وَكَانَ الْأِنْسَانُ قَتُوراً ) الإسراء/ 100
7. رزق الله مادي ومعنوي ، فهو يرزق الخلق المطر والثمر ويرزقهم الإيمان والقناعة والسعادة ، وإذا ملك العباد بعض الرزق المادي فأنَى لهم رزق غيرهم الرزق المعنوي ؟! .
قال تعالى
( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) البقرة/ 212
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي – رحمه الله - :
قال تعالى ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر ، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه ، ونحو ذلك : فلا يعطيها إلا من يحب .
" تفسير السعدي " ( ص 95 ) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعود قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ
( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ )
رواه البخاري ( 3036 ) ومسلم ( 2643 ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
( رِزْقه ) الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
والرزق الذي يقوم به البدن : هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
والرزق الذي يقوم به الدين : هو العلم ، والإيمان ، وكلاهما مراد بهذا الحديث .
" شرح الأربعين النووية " ( ص 101 ، 102 ) طبعة الثريا .
ولهذا فإن الرازق والرزاق على الحقيقة هو الله وحده لا شريك له ، وقد استدل الله برزقه للعباد على إبطال الشرك وتسفيه المشركين ، فقال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) فاطر/ 3 .
رابعاً:
ونختم جوابنا هذا برائعة جامعة في الموضوع :
قال الدكتور عبد الله دراز - رحمه الله - :
اقرأ قوله تعالى ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) البقرة/ 222 ، وانظر هل ترى كلاماً أبين من هذا في عقول الناس ، ثم انظر كم في هذه الكلمة من مرونة :
فإنك لو قلت في معناها :
1. إنه سبحانه يرزق من يشاء بغير محاسب يحاسبه ولا سائل يسأله لماذا يبسط الرزق لهؤلاء ويقْدِره على هؤلاء : أصبتَ .
2. ولو قلت : إنه يرزق بغير تقتير ولا محاسبة لنفسه عند الإنفاق خوف النفاد : أصبتَ .
3. ولو قلتَ : إنه يرزق من يشاء من حيث لا ينتظر ولا يحتسب : أصبت .
4. ولو قلت إنه يرزقه بغير معاتبة ومناقشة له على عمله : أصبتَ .
5. ولو قلتَ : يرزقه رزقا كثيراً لا يدخل تحت حصر وحساب : أصبتَ .
فعلى الأول : يكون الكلام تقريراً لقاعدة الأرزاق في الدنيا ، وأن نظامها لا يجري على حسب ما عند المرزوق من استحقاق بعلمه أو عمله ، بل تجري وفقاً لمشيئته وحكمته سبحانه في الابتلاء ، وفي ذلك ما فيه من التسلية لفقراء المؤمنين ، ومن الهضم لنفوس المغرورين من المترفين .
وعلى الثاني : يكون تنبيهاً على سعة خزائن الله وبسطة يده جل شأنه .
وعلى الثالث : يكون تلويحاً للمؤمنين بما سيفتح لهم من أبواب النصر والظفر حتى يبدل عسرهم يسراً ، وفقرهم غنًى ، من حيث لا يظنون .
وعلى الرابع والخامس : يكون وعداً للصالحين : إما بدخولهم الجنة بغير حساب ، وإما بمضاعفة أجورهم أضعافا كثيرة لا يحصرها العد .
ومن وقف على علم التأويل واطلع على معترك أفهام العلماء في آية رأى من ذلك العجب العجاب .
" النبأ العظيم " ( ص 147 ، 148 ) .
الشبهة الثانية:
يقول القائل: إن كان الدعاء يرد القضاء ، ويمكن أن يزيد رزق الرجل أو ينقص لأجل ذلك ؛ فكيف يحصل الملحد على رزقه ، مع أنه قد يحصل عليه دون أن يضطر للعمل ، ودون أن يدعو الله أن يرزقه؟
الرد عليها:
الجواب من وجوه:
أولا :
قدَّر الله تعالى الأرزاق كما قَدَّر الآجال ، فلا تموت نفس حتى تستوفي رزقها كما تستوفي أجلها ، روى ابن حبان (3238) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( إن الرزق ليطلُب العبدَ كما يطلُبه أجلُه ) وصححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1703)
وقد جعل الله تعالى للرزق أسبابًا حسية مادية ، وأسبابا شرعية .
فالأسباب المادية كالعمل والتجارة والاجتهاد في ذلك وإتقان العمل ، ونحو هذا .
وهذه الأسباب يستوي فيها جميع الناس ، المؤمن والكافر ، فكل من عمل واجتهد رزقه الله إلا أن يمنعه الله عقوبة على معصية أو اختبارا ، أو لسبب آخر تقتضيه حكم أحكم الحاكمين .
وأما الأسباب الشرعية ، كالإيمان والتقوى وبر الوالدين وصلة الرحم والدعاء ، فيدعو العبد ربه أن يرزقه ، وأن يزيده في رزقه ، ويبارك له فيه ، فيستجيب الله له ، فينمو رزقه ، ويزداد ، ويبارك له فيه .
وقد يرزق الله بعض الناس ، مؤمنا كان أو كافرا ، بدون سبب فعله العبد ، بل بمحض مشيئته سبحانه وتعالى .
فكل مخلوق لابد أن يصل إليه رزقه المقدَّر له ، بسبب أو بغير سبب ، قال الله تعالى :
(وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) العنكبوت/60
وقال تعالى :
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) هود/6
ولما دعا إبراهيم عليه السلام ربه أن يرزق المؤمنين من أهل مكة من الثمرات ، أخبره الله تعالى أنه لن يجعل رزقه خاصا بالمؤمنين ، بل سيرزق المؤمنين والكافرين .
قال تعالى:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) البقرة/ 126
قال السعدي رحمه الله:
" دعا إبراهيم لهذا البيت ، أن يجعله الله بلدا آمنا، ويرزق أهله من أنواع الثمرات ، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين .
فلما دعا لهم بالرزق ، وقيده بالمؤمن ، وكان رزق الله شاملا للمؤمن والكافر، والعاصي والطائع، قال تعالى: (وَمَنْ كَفَرَ) أي: أرزقهم كلهم ، مسلمهم وكافرهم ، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله ، ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة ، وأما الكافر، فيتمتع فيها قليلا (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ) أي: ألجئه وأخرجه مكرها (إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 66) .
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
" فالمؤمن يكون مرزوقا في الدنيا، وفي الآخرة تكفل الله برزقه ، وكذلك الكافر يرزقه الله جل وعلا في الدنيا، وفي الآخرة يجعل مصيره إلى النار " انتهى .
وعن أبي موسى الأشعري قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
( مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ ) رواه مسلم ( 2804 )
وقد يبذل العبد الأسباب الحسية ، أو الشرعية ، التي من شأنها أن توصل إلى المطلوب المعين؛ ثم لا يقدر الله تعالى له مثل ذلك المطلوب .
وقال تعالى
( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) الإسراء/ 18-21
قال الحسن البصري – رحمه الله - :
" كلاًّ نعطي من الدنيا : البرّ والفاجر " انتهى من " تفسير الطبري " ( 17 / 411 )
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
" إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ ، وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ "
انتهى من "مصنف ابن أبي شيبة "(7/ 105) .
فيحصل الكافر على رزقه في الدنيا كما يحصل المؤمن على رزقه ، ولكن المؤمن يطلب رزقه من الحلال الطيب ، ويؤدي شكره ، ويستعين به على طاعة الله .
وأما الكافر: فيطلب رزقه من أي وجه كان ، ولا يؤدي شكره ، ولا يستعين به على طاعة الله ، بل قد يستعين به على معصية الله .
الشبهة الثالثة:
يقول قائل: ما الحكمة من التفاوت بين الخلق في الرزق؟
الرد عليها:
حتى يعرف الغني قدر نعمة الله عليه بالإيسار فيشكره عليها ويلتحق بالشاكرين ويعرف الفقير ما ابتلاه الله به من الفقر فيصبر عليه وينال درجة الصابرين
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]
وهو مع ذلك لا يزال يسأل ربه الميسرة وينتظر الفرج من رب العالمين قسم الله الرزق بين عباده لتقوم مصالحهم الدينية والدنيوية فلو بسط الرزق لجميع العباد لبغوا في الأرض بالكفر والطغيان والفساد ولو ضيق الرزق على جميعهم لاختل نظامهم وتهاوت من معيشتهم الأركان لو كان الناس في الرزق على درجة واحدة لم يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً لم يعمل أحدهم للآخر صنعة ولم يحترف له بحرفة لأن الكل في درجة واحدة فليس أحدهم أولى بهذا من الآخر أين الرحمة والعطف من الغني للفقير إذا قدرنا أن الناس كلهم في درجة واحدة أين الموقع العظيم الذي يحصل بصلة الأقارب بالمال إذا كان الكل في درجة واحدة إن هذا وأضعافه من المصالح يفقد لو تساوى الناس في الأرزاق ولكن الحكيم العليم قسم بينهم أرزاقهم وأمر الأغنياء بالشكر والإنفاق وأمر الفقراء بالصبر وانتظار الفرج من الكريم الرزاق فعلينا معشر المسلمين أن نرضى به ربا فنرضى بقسمه واقداره وأن نرضى به حكماً فنؤمن بحكمه وأسراره.