((العقل آلية التفكر وأداة التدبر))
كرَّم الله عز وجل الإنسان وميّزه عن غيره مِن المخلوقات بمميزات عديدة، ومن هذه المميزات، تمييز الإنسان بالعقل، والذي يستطيع أن يميز به بين النافع والضار، والمصلحة والمفسدة، ويدرك به التكاليف الشرعية، ويتدبر به الآيات القرآنية، ويفهم به الأحاديث النبوية، ويجتهد به في أموره الدنيوية؛ فهو واسطة لا غنى للإنسان عنها في إدراك أمور دينه ودنياه.
ونظرة الإسلام للعقل تعتبر نظرة مختلفة عن سائر الأديان، فالعقل في الإسلام هو: -
جوهر إنسانية الإنسان ورفعته وامتيازه وتفضيله على غيره من المخلوقات، يقول تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا}، وكرَّمَه بالاستِعدادات التي أودعَها فِطرتَه، هيئةٌ وفِطرَة تجمعُ بين الطينِ والنفخَة، هيَّأَ له من التسخِير ما يقومُ به في وظيفةِ الاستِخلافِ والتعمير،
يقول الله تعالى
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
[الجاثية13]
وإن من أهمِّ مُهمات الاستِخلاف والتعمير: إصلاحَ التفكير واستِقامتَه، وضبطَ مسَارِه في كلِ جوانِبِ الحياةِ وميادينِها، ومنزلةُ الإنسان وقوَّةُ تفكيرِه تظهرُ بقَدرِ إعمالِه فِكرَه، وحُسنِ تصرُّفهِ في عقلِه، ومدَى تحقيقِه لما ينفَعُه في دُنياه وآخرتِه.
- - مَناطُ التكليف، ومحلُّ الفَهم، وبه استنباطُ الأحكامُ الشرعية وبيانُ مُرادِ الشارع، وبه حُسنُ التصرُّف في أمورِ الدينِ والدنيا، فهو مناط التكليف، ويسقط التكليف بغيابه أو ضعفه فقد رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحلم، والمجنون حتى يشفى من جنونه، وقد جعل الله تعالى العقل والرشد معيارا للتصرف في المال فقال تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء5]، فينهى تعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما، أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن هاهنا يؤخذ الحجر على السفهاء.
- المُكلَّفٌ تكليفًا صريحًا بالنظرِ في ملكوتِ السماوات والأرض، قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة164]، وإدراكِ العلاقات أسبابًا ومُسبَّبات، واكتسابِ العلوم، والنظر في المصالحِ والمفاسدِ، والمنافع والمضار، والعدلِ والظلم، كلُّ ذلك من أجل أن يستَفيدَ من التسخير للقيامِ بمهمة التعمير.
- ما كان خارِجَ الصور التي تُحسّ أو تُرَى من المُدرَكاتِ التي يعيشُها.
- الغيبُ وما وراء المحسُوس.
وقال تعالى
﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا﴾
[النساء 6]
فانظر إلى كلمة ﴿السُّفَهَاءَ﴾ و ﴿رُشْدًا﴾ فالمعيار فيهما العقل وحسن التصرف.
ولهذا حث الإسلام الناس على التعقل، وأكّد على تنميته وتطوره، وتنمية العقل لا تكون إلا بالعلم، وعليه فإن مطالبة الإسلام بالتعقل هو دعوة لطلب العلم، وقد جاء ذلك صريحا في كتاب الله سبحانه وتعالى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {وقل رب زدني علما}
في هذه المعاني السابقة أبلغ دليل على تشريف الإسلام للعقل، وحرصه على بيان قيمته.
ومع كل هذه المهمات التي أناطها الله بالعقل، وميزه بها عن غيره، إلا أن العقلُ بمُجرَّدِه لا يصلُحُ مرجِعًا ولا مِيزانًا، فعقولُ البشر مُتفاوِتة في قوتِها وضعفِها وإدراكِها واستيعابِها، وإنَّ من الخطَل أن يخلِطَ من يخلِط، فيجعلُ عقلَه هو المرجِع، فما يستنكِرُه هوَاه أو رأيُه ورغَباتُه، يحسَبُ أن العقلَ هو الذي استنكَرَه وأبَاه، وما قبِلَه فعنده أن العقلَ هو الذي قبِلَه وارتضَاه، وقد علِمَ أن العقولَ مُختلِفةٌ منازِلُها، والحظُوظ مُتفاوِتةٌ إدراكاتُها. وما ذلك إلا لأنَّ هناك أمور لا يستطيع العقلَ البشريَّ إدراكها، ومن أهمها: -
فهذه من الأمور التي يعجز العقل عن إدراكها، فلا يُدرِكُها العقلُ إلا بالخبَرِ الصادق، فيعجز عن اقتحامها، فهي مناطق لا تؤهله قدراته على اختراقها وقضايا لا يستطيع الحكم فيها، فهو لا يستطيع الحكم على عالم الغيبيات، أو عدم المحسوسات، والذي صوّره الحق تبارك وتعالى في القرآن وأمرنا بتحقيقه عن طريق الوحي، وأمرنا أن نؤمن به.
فالعقل يقبله ولكنه لا يستطيع وحده أن يصل إلى الحكم فيه، لأن أداته ليست مؤهلة لهذا الغرض، فالعقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ولا كاشفا للغطاء في جميع المعضلات.
وإبراهيم – عليه السلام – أراه اللهُ ملَكوتَ السماوات والأرض؛ ليكونَ من المُوقِنين، وأراه كيفَ يُحيِي الموتَى ليطمئنَّ قلبه، فحقائِقُ الغَيبِ لا تُدرَكُ إلا بالخبَرِ الصحيحِ من الصادقِ المصدوقِ.
والعقل هنا مطالب بالتسليم للنص الشرعي الصريح -فقط -ولو لم يفهمه، أو يدرك الحكمة التي فيه؛ لأن الشارع نص على كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر؛ فلا حجة لأحد بعد بيانه؛
قال عز وجل
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
[التوبة115]
وقوله تعالى
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}
[المائدة3]
فمهما ابتكر عقل الإنسان من اختراعات وحل من مشكلات معقدة وكبيرة؛ إلا أنه قاصر وله حدود يجب أن يتوقف عندها؛ فقد لا يستطيع أن يفسر الكثير من الغيبيات التي اختص الله بها نفسه، وقد لا يستطيع أن يعرف من علل الأحكام والتشريعات إلا القليل، ولأن هذا القصور يصاحب العقل؛ فلم يتركه المولى -سبحانه وتعالى- يتخبط دون هداية؛ فأرسل لأجل ذلك الرسل، وأنزل الكتب.
وهذه الموازنة بين حدود العقل وتعظيمه وتقديره تبين لنا عظمة منهج الإسلام، فهذا التوضيح لحقيقة العقل ووضعه في مناطه الطبيعي بلا إفراط ولا تكليف، يعتبر من أروع المناهج حيث تعامل الدين مع العقل تعاملاً واقعياً؛ فاعترف بقصوره، وحث على تكميله؛ ولهذا جاء الحث على الشورى، والنصح بين الناس، بل وأرسل الله الرسل وأنزل الكتب لهدايتهم إلى تفاصيل ما لا تهتدي إليه العقول.
والعجيب ظهور فئة من الناس تدعو إلى إعمال العقل في أمور الدين والدنيا، وترك نصوص الشرع من الكتاب والسنة، مع أنه لا تعارض بين صريح النقل وصحيح العقل، لكنهم أرادوا من هذا العقل الذي يغفل وينسى، ويضعف ويسهى أن يحيط بجميع أمور الإنسان، وأن يكون له الكلمة الفصل في أمور الدين والدنيا والغيبيات وغير ذلك؛ فقاد ذلك البعض إلى ترك النصوص الشرعية بحجة أنها لا تتوافق مع العقل حسب زعمهم.
إننا بالبحث لن نجد دينا ولا فكرا كرم العقل والفكر وأشاد بأولي الألباب والنهي كالإسلام، فكثر في القرآن الحث على التعقل والتدبر،
قال تعالى
{أَفَلا تَعْقِلُونَ}
[البقرة44]
ويقول جل جلاله
{أَفَلا يَنْظُرُونَ}
[الغاشية17]
ويقول سبحانه وتعالى
{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
[البقرة73]
ويقول سبحانه
{لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
[البقرة219]
ويقول الله
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا}
[الأعراف185]
ويقول جل جلاله
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}
[الروم8]
ويقول الله
{لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
[البقرة164]
ويقول سبحانه
{لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
[يونس24]
.
ولا شك أن العقل له مجاله في ميدان العلوم والتجريب وآفاق الكيمياء والتكنولوجيا وغيرها، وقد كان له دوره الضخم الذي استطاع به المسلمون بناء المنهج العلمي التجريبي حين تخطوا المرحلة النظرية التي وقعت عنها دراسات الفلاسفة قبل الإسلام. وقد كانت نظرية المعرفة الإسلامية الجامعة بين العقل والقلب مصدر النصر الذي حققه المسلمون حين وصلوا إلى قاعدة لم يسبقهم إليها سابقون وهي قاعدة « جرب واحكم» في مجال الطب والفلك والهندسة والكيمياء. ومن هنا سار العقل والقلب في الفكر الإسلامي في إطار واحد، دون أن يقع ذلك الاصطدام الذي عرفه الفكر الغربي، ودون أن تتمزق الجبهة الواحدة إلى جبهتين، على النحو الذي نراه في التفرقة الغربية بين العلم والدين. ولقد أكد العلماء المسلمون القاعدة التي وضعها النبي حين قال: (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون منه). فكان ذلك دعوة إلى التمحيص والإقناع، وهي التي أوصلت المسلمين إلى إجراء التجربة. وقد أقام المسلمون تجاربهم العقلية والعلمية تحت راية الوحي وفي ظلال مفهوم الإسلام الجامعة بين العقل والقلب والروح والمادة.
ومن أروع ما جاء في القرآن
قوله تعالى
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}
[سبأ46]
ومعناه
أنه لا يطلب منهم إلا خصلة واحدة، وهي أن يتوجهوا بعقولهم وقلوبهم إلى الله الذي يؤمنون به، وبخالقيته للكون وتدبيره لأمره، مخلصين في طلب الهداية إلى الحقيقة، بعيدًا عن تأثير” التفكير الجمعي “، وعن الخوف من الناس أو المجاملة لهم، كل فرد مع صديقه ممن يثق به، ويطمئن إليه، أو يفكر وحده، وهو معنى قوله: (مثنى وفرادى)، ثم يتفكروا في أمر النبوة، وسيهديهم فكرهم الحر إلى الحق.
وقد اعتبر العلماء العقل مناط التكليف، ومحور الثواب والعقاب، كما قرروا أن العقل أساس النقل، إذ لو لم يثبت وجود الله بالعقل، ويثبت صدق النبي بالعقل، ما ثبت الوحي، فالعقل هو الذي يثبت النبوة، ويثبت صدق النبي عن طريق المعجزة الدالة على صدقه دلالة عقلية، ثم بعد ذلك يعزل العقل نفسه، ليتلقى عن الوحي الذي هو سلطة أعلى منه.
ولذا فمن أصول معتقد أهل السنة ((أن إيمان المقلّد المطلق غير مقبول، لأنه لم يؤسَّس على برهان، ولم يقم على حجة بينة، بل على تقليد محض))
يقول تعالى
{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
[الزخرف23]
والقرآن يطالب كل ذي دعوى بإقامة البرهان على دعواه، وإلا اطّرحت ورفضت، ولهذا قال في محاورة المشركين:
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
[النمل64]
وقال تعالى
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}
[الأنبياء24]
وقال الله في محاجة أهل الكتاب
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
[البقرة111]
فالعقائد لا بد أن تؤسس على البراهين اليقينية، لا على الظنون والأوهام، ولهذا عاب الله المشركين
بقوله تعالى
{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ}
[الجاثية32]
وقال الله
{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ}
[الجاثية24]
ولذا يمكننا أن نقول بكل يقين ووضوح: -
أنه ليس في الإسلام ما عُرِف في بعض الأديان الأخرى من اعتبار الإيمان شيئًا خارج منطقة العقل ودائرة التفكير، وإنما يؤخذ بالتسليم المطلق، وإن لم يرتضه العقل، أو يسانده البرهان، حتى شاع عندهم مثل هذا القول:” اعتقد وأنت أعمى!” أو” أغمض عينيك ثم اتبعني!”.
ويحرم على المسلم أن يتبع الظنون والأوهام، معطلاً الأدوات التي وهبه الله إياها لتحصيل المعرفة الصحيحة، وهي: ""السمع والبصر والفؤاد""،
قال تعالى
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}
[الإسراء36]
ومعنى الآية: -
إن الله تعالى نهى عن القول بلا علم، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، وفي الحديث ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا ((بئس مطية الرجل: زعموا))
كما أن تعطيل السمع والبصر والفؤاد ينزل بالإنسان من أفق الإنسانية العاقلة إلى حضيض البهيمية الغافلة، بل يجعل الإنسان أضل سبيلاً من الأنعام؛ لأنه لم يؤت ما أوتي من قوى التمييز والإدراك، فكان جديرًا أن يكون من حطب جهنم:
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
[الأعراف179]
لقد عاب القرآن على المشركين اتباعهم للظن في تكوين العقائد التي لا يغني فيها إلا اليقين القائم على البصيرة والبرهان، وفي ذلك بخطابهم فيقول في شأن آلهتهم:
{إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}
[النجم23]
ويقول في هذا السياق نفسه:
{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}
[النجم28]
وعاب على أهل الكتاب في قضية قتل المسيح ما عابه على الوثنيين فقال:
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}
[النساء157–158]
إن من أراد أن يعرف فكرة صحيحة كاملة عن دقائق جهاز ما، وعن الغاية من صنعه، فلابد أن يأخذها من صانعه نفسه، والله تعالى هو خالق هذا الكون، علويه وسفليه، بمن فيه وما فيه، وما نبصره وما لا نبصره، وهو وحده القادر على أن يمدنا بالحقائق الصادقة عن هذا الوجود وأسراره وغاياته:
{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
[الملك14]
.
إن دور العقل المسلم من منظور القرآن الكريم دور هام وفاعل في شتى مجالات الحياة، وفي كل الميادين، وفي مختلف المعارف والعلوم، هذا الدور الذي دعا إليه المنهج القرآني بكل وضوح ومنهجية، وتوافرت عليه كثير الآيات والسور، لا بد وأن يتمثله العقل المسلم من زوايا مختلفة، ومحاور متجددة، ورؤى وضيئة، تضفى على العقل الفاعلية، وتنفي عنه الجمود والتحجر، وتطلق له العنان ليقوم بالدور المناط به كعقل بشـري يمتلك المؤهلات البيولوجية، والقدرات العالية في التنقيب والتجديد، والبحث والنظر، والابتكار والاختراع، والاستدلال والمحاكاة، ونقد الأشياء وفق الزاوية المتاحة، والضابط المتاح.
لقد أسس القرآن الحياة والحضارة المدنية على أساس العقل، فخاطبه ودعاه إلى التفكير، والنظر العقلي، والتفكير فيما أودع الله في الكون من الأسـرار وبدائع الخلق، ورفض الأساطير والخرافات، والأكاذيب بشتى صورها وألوانها، والشائعات والأراجيف التي تتصادم مع عمل العقل، واستخدم القرآن في ذلك الدليل الحسي العقلي لإثبات وجود الخالق سبحانه وتعالى، من هذه الرؤية فإن دور العقل ينبغي أن يكون في المشاركة في النهوض الحضاري، والتقدم الصناعي، والتطور التكنولوجي وفق العلمية والمنهجية القرآنية التي كونته وأضفت عليه الطابع المعرفي وفق الإسلامية الفريدة والمتميزة، وسأتناول شيئاً عن الدور المناط بالعقل المسلم.