مشاهد من ليل الفضيل بن عياض
وهذا العبد المحب لله تعالى، " أبو علي، الفضيل بن عياض. كان قوامًا الليل، مُختليًل للعبادة، ملازمًا لبيت الله الحرام، فعن إسحاق بن إبراهيم قال: ما رأيت أحدًا أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة، كأنه يخاطب إنسانًا، وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة تردد فيها وسأل، وكانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعدًا، تُلقى له حصير في مسجده، فيصلي من أول الليل ساعة حتى تغلبه عينه، فيلقى نفسه على الحصير؛ فينام قليلًا ثم يقوم، إذا غلبه النوم؛ نام ثم يقوم هكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام، ويُقال: أشد العبادة ما يكون هكذا، وكان صحيح الحديث، صدوق اللسان، شديد الهيبة للحديث (1) إذا حدث (2)".
وكان يقول: "إني لأستقبل الليل من أوله؛ فيهولني طوله، فأفتح القرآن، فأصبح، وما قضيت نهمتي ". (3)
وعن هناد بن السري، قال: سمعت الفضيل بن عياض، يقول: "ما من ليلة اختلط ظلامها وأرخى الليل سربال سترها، إلا نادى الجليل جل جلاله (4): من أعظم مني جودًا، والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم؛ كأنهم لم يعصوني، وأتولى حفظهم؛ كأنهم لم يذنبوا من بيني وبينهم، وأجود بالفضل على العاصي، وأتفضل على المسيء، من ذا الذي دعاني فلم أسمع إليه؟ أو من ذا الذي سألني فلم أعطه؟ أم من ذا الذي أناخ ببابي ونحيته؟ أنا الفضل، ومني الفضل، وأنا الجواد، ومني الجود، أنا الكريم، ومني كرمي أن أغفر للعاصي بعد المعاصي، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني تهرب الخلائق، وأين عن بابي يتنحى العاصون". (5)
وعن الحسين بن زياد، قال: أخذ فضيل بن عياض بيدي، فقال: "يا حسين ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول الرب: كذب من ادعى محبتي إذا جنه الليل نام عني؟ أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه؟ ها أنذا مُطلع على أحبائي إذا جنهم الليل مثلت نفسي بين أعينهم فخاطبوني على المشاهدة وكلموني على حضوري، غدًا أقر أعين أحبائي في جناتي" (6)
وعن إبراهيم بن الأشعث، قال: "سمعت فضيلًا يقول: كان يُقال من أخلاق الأنبياء والأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم خلائق ثلاثة: الحلم، والإنابة، وحظ من قيام الليل" (7)
وعن عبد الصمد بن يزيد، قال: "سمعت الفضيل بن عياض، يقول: أدركت أقوامًا ما يستحيون من الله، سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب، فإذا تحرك؛ قال: ليس هذا لك؛ قومي خذي حظك من الآخرة" (8)
وعن أبي بكر بن عياش، قال: "صليت خلف فضيل بن عياض المغرب، وابنه علي إلى جانبي، فقرأ:
أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ
(9)
فلما قال:
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)
سقط علي على وجهه مغشيًا عليه، وبقى فضيل عند الآية.
فقلت في نفسي: ويحك أما عندك من الخوف ما عند فضيل وعلي، فلم أزل أنتظر عليا، فما آفاق إلى ثلثٍ من الليل بقى" (10)
وعن سفيان بن عيينة، قال: "ما رأيت أحدًا أخوف لله من الفضيل وابنه علي؛ بلغنا أن عليًا سمع قارئًا يتلو بصوت شجي
قوله تعالى:
(وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذۡ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يَٰلَيۡتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِـَٔايَٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ)
(11)
فشهق وسقط ميتًا، رحمه الله" (12)
المراجع
1. يقصد بالحديث: حديث رسول الله صل الله عليه وسلم؛ وذلك لشدة هيبته صلى الله عليه وسلم في قلبه، وتوقيره في نفسه.
2. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم: 8/ 86
3. إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي: 355/1
4. هذا الأثر مروي عن أهل الكتاب، وهو موافق للحق، والله تعالى أعلم.
5. حيلة الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم 98/8
6. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم 99/8
7. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم 95/8
8. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم 96/8
9. التكاثر: الآية 1
10. سير أعلام النبلاء، للذهبي 407/7
11. الأنعام: الآية 27
12. تاريخ الإسلام، للذهبي: 694/4