مشاهد من ليل أبي حنيفة رضي الله عنه
وهذا أبو حنيفة العالم العامل العابد، المحب لله تعالى، فعن أبي يوسف، بينا أنا أمشي مع أبي حنيفة، "إذ سمع الصبيان يصيحون: هذا أبو حنيفة، الذي لا ينام الليل، فقال لي: يا أبا يوسف، أما ترى ما يقوله هؤلاء الصبيان؟ فلله على أن لا أضع جنبي بفراش حتى ألقى الله تعالى" (1).
وعن مسعرٍ، قال: "كنت أنظر إلى أبي حنيفة رضي الله عنه يصلي الغذاة، ثم يجلس في مذاكرة العلم إلى العصر، ولا يحدث وضوءًا ولا طعامًا ولا شرابًا، ثم يجلس بعد صلاة العصر إلى المغرب، ثم يجلس في مذاكرة العلم إلى عشاء الأخرة، فقلت في نفسي: متى يتفرغ هذا للعبادة؛ لأتعاهدنه بالليل، قال: فتعاهدته، فلما صلى العشاء الآخرة، دخل منزله، فلما هدأ الناس، وأخذوا مضاعهم، خرج إلى المسجد؛ فانتصب، فكان يصلي الليل كله، فلما كان في الوقت الذي يتحرك الناس فيه، دخل منزله، وخرج في ذلك الوقت الذي خرج فيه، وقد تهيأ وسرح لحيته، ثم صلى الفجر، ثم قعد يذاكر العلم يومه أجمع، قال: فقلت لعل هذا شيء جعله على نفسه أيامًا، فلزمته حتى مات، فلما رأيته بالنهار مفطرًا، ولا بالليل نائمًا، وكان يخفق قبل الظهر خفقة خفيفة" (2).
وعن أبي الجويرية قال: "لقد صحبت أبا حنيفة رضي الله عنه ستة أشهر، فما فيها ليلة وضع جنبه على الأرض" (3).
انظر هذا الإمام الفقيه العالم العابد؛ ما كان يشغله شأن عن شأن؛ فلم يشغله العلم ومدارسته عن قيام الليل؛ فكان يعلم الناس في النهار؛ ويتعبد الله تعالى بالليل؛ نهاره لطلبة العلم، وليلة لله تعالى؛ فيا حسرة على زمان بتنا فيه؛ ليس لأهل العلم فيه إلا المحاضرة بالأجرة؛ لا حظ لهم من علمهم إلا الرواية.
المراجع
(1) أخبار أبي حنيفة وأصحابه، لأبي عبدالله الحنفي: 53
(2) أخبار أبي حنيفة وأصحابه، لأبي عبدالله الحنفي: 1/53
(3) إحياء علوم الدين، للغزالي: 1/355