الهمز و اللمز
من أهم أهداف الإسلام الحفاظ على سلامة الخلق من أذية أحد سواء باللسان أو باليد، وإذا كان هذا مطلبا عاما وهدفا غالبا، فالمطالب به من باب أولى هو المسلم، لذا فقد حذّر الإسلام من خطر اللسان، ونبّه على خطورة استخدامه في أذية الناس.
ومما يؤذى به الناس باللسان (الهمز واللمز) وهما آفتان من أشد آفات اللسان خطورة، حيث انهما ينقصان من رصيد صاحبهما عند الله، وقد يكونا سبباً مباشراً في رجحان كفة السيئات يوم القيامة. ولذا فالمسلم لابد أن يتبرأ ويطهّر نفسه من هاتين الخصلتين، لأنهما داءان خطيران، حيث انهما يشتركان في كونهما عيبا للخلق، ويفترقان في أداء العيب، فذو الهمز يقع في الناس عائبا بلسانه، وذو اللمز يقع عائبا للناس بفعاله.
الهمّاز :هو الذي يتكلم في الناس عيبا بلسانه.
اللماز : هو الذي يقع في الناس عيبا بأفعاله إما بإشارة عينه أو بحركة يده ولسانه.
ومن العجب أن الهماز اللماز اليوم يعد من أهم أدوات التفكه في مجالس الشباب، ومجموعات الكبار في مجالس الترفيه، في المنتديات والمقاهي وغيرها، ويحزن الجميع لو غاب اللماز الهماز الذي يضفي مسحة السخرية على هذا، والانتقاص ضاحكاً من حال هذه والولوغ ساخراً في عرض فلان أو فلانة، والكل حوله يضحك محب لحديثه، وهو في الحقيقة يجرهم إلى النار جراً، ويسهم في رجحان كفة السيئات أيما إسهام.
وإن هؤلاء وهؤلاء متوعدون أبلغ الوعيد وأعظمه،
بقوله سبحانه وتعالى
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}
[الهمزة1]
فإن كلمة: {وَيْلٌ} أبلغهما في التهديد والوعيد لفظا، وأكثره دورانا في اللسان.
وجيء في هذا مواضع عدة من القرآن الكريم، فتارة تستفتح بها السور، وتارة تختتم بها السور، وتارة تتوسط السور، للإعلام بوعيد شديد، ومن تلك السور المستفتحة بها: "سورة الهمزة" التي قال الله -سبحانه وتعالى- فيها
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}
[الهمزة1]
أي أشد الوعيد لكل من كان ذا همز ولمز.
ثم ذكر سبحانه وتعالى منشأ شرره، ومبتدأ خطره، وهو: اغتراره بما يحوزه من عرض دنيوي،
فقال سبحانه
{الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}
[الهمزة2- 3]
فالحامل له على غمط الناس وهمزهم ولمزهم: اغتراره بما أصابه من الدنيا من مال أو جاه أو منصب أو رئاسة، أو حسب أو نسب، يحركه نحو الشر، ويبعثه إلى أبلغ الخطر، فيكون غمازا للناس، مستخفا بهم، غير مبال بحقوقهم.
ثم قال سبحانه وتعالى بعد أن ذكر حاله
{كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}
[الهمزة4]
مبيّنا ما سيكون إليه مآله في الآخرة، فذلك الذي حمله على الاستهانة بالناس، والاستخفاف بهم من مال أو جاه أو منصب أو رياسة، سيكون مآله بأن ينبذه ربنا -سبحانه وتعالى- في الحطمة، وذكر هذا وذاك لبيان شدة ما يكره، فإن الله -سبحانه وتعالى- لم يقل: ليلقين في الحطمة؛ لأن النبذ يدل على الاستهانة به، والاستخفاف بقدره، وإن ينبذ ما لا يبالي به.
ثم أخبر سبحانه وتعالى أن نبذه سيكون بالحطمة، والحطمة هي النار.
لكن الله -عز وجل- لم يقل: لينبذن في نار جهنم،
ولكنه قال
{لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ}
[الهمزة4]
لتكون دارا يحطم فيها ماله وجاهه ورئاسته ومنصبه ومكانه ومحلته التي استعلى بها على الناس، واستكبر عليهم، فعند ذلك يزيف ما كان فيه من بهرج زائل، ويزول عنه ما كان يستعلي به على خلق الله، مما يحمله على غمزهم ولمزهم.
ثم قال تعالى بعد أن بين جزاءه بأن ينبذ في الحطمة التي يحطم في هذا عزه الأكبر على الاستخفاف بالناس:
{كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ}
[الهمزة4- 6]
أي التي لا تنطفئ أبداً، فإن كل نار يخبو شرارها، ويموت رمادها إلا نار الله -سبحانه وتعالى- التي هي دار عذابه، فلا تزال موقدة أبداً.
ثم تلك النار التي يدخل فيها إذا نزل فيها محطما هي نار مؤصدة عليه أي: تغلق عليه، ثم يكون عذاب أهلها
{فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ}
[الهمزة9]
أي في أعمدة طويلة؛ لأنه أشد ما يكون لاشتعال النار إذا أرسلت في علو لا في عرض، فيكون ذلك أشد العذاب عليه.
ثم تلك النار الموقدة التي جعلها الله -سبحانه وتعالى- عليهم مطبقة
{تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ}
[الهمزة7]
أي يصل عذابها إلى القلوب، وإنما يجعل عذاب النار موصلا إلى القلوب لأمرين اثنين:
أحدهما: أن القلب من ألطف ما يكون للبدن من اللحم، فأشد ما يكون من أثر النار إذا وصلت إليه، وإذا كان الإنسان يألم إذا وصل حرق النار إلى البشرة، فإن شدة الحرق والألم تكون في وصوله إلى القلب أعظم وأعظم.
والآخر: أنه مبتدأ الفطرة والإرادة التي حملته على همز الناس ولمزهم هي قلبه، فاستحق أن يعذب أشد العذاب.
ولعمري إذا كان الناس يتخوفون من قرار تنظمي شديد يكبل شرورهم، ويمنعهم مما يريدون أن يصيبهم عذاب في الدنيا، فكيف إذا كان الهمازون اللمازون متوعدون بسورة كالمة خاطبهم الله بها، وسماها على اسم لهم تنديدا وتهديا ووعيدا.
إن الناس يتخوفون الذنوب التي يأخذون عليها بالحدود الشرعية أو التعزيرات النظامية، وإن أبلغ ما يكون الخوف: أن يخاف الإنسان من وعيد يلحقه لا ينقضي أبداً وهو عذاب الله -سبحانه وتعالى- في الآخرة.
فلنكن لبنة خير في مجتمعاتنا، بأفعالنا وأقوالنا، ولنتق الله في ألسنتنا، ولنرعى ذلك حق الرعاية، ولنجعل ألسنتنا وسائل لمرضاة الله، من دعوة إلى الله -تعالى- وتعليم للخير، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وتربية صالحة للأولاد، وتلطف للجار وذوي القربي، فكل ذلك من علامة الإيمان. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: “مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ والْيَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أوْ لِيصْمُتْ”.
ولننتبه إلى أنه إذا كثرت الفتن وانتشر الشر تأكد على المسلم حفظ لسانه، عن عُقبةَ بنُ عامرٍ -رضِيَ اللهُ عَنه- قَالَ: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاةُ؟ قَال: “أمسِكْ عليك لسانَك، ولْيَسعْك بيتُك، وابْكِ على خطيئتِكَ"