الظلم ظلمات
الظلم اسم يجمع الرذائل، ويدل على القبائح، وهو اسم تمجّه الأسماع، وتستثقله الألسن، له ظلمةٌ تقلب الأحوال، وتغير الدول، وهو ليس ظلمة فقطن بل هو ظلمات يوم القيامة، وإذا حلَّت النقمة من الله على الظالم فيا ويله،
قال الله تعالى
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾
[إبراهيم42]
إنه أمر عواقبه سيئة على الأمم والأفراد، وهو خُلق ذميم، وذنب عظيم، يحيل حياة الناس إلى شقاء وجحيم، ويأكل الحسنات، ويجلب الويلات على المجتمعات،
قال الله تعالى
﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً﴾
[الكهف:59]
ولشدة خطره وعظيم أثره كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من الاستعاذة منه فيقول: ((وأعوذ بك أن أَظلِم أو أُظلم)).
فياله من أمر مَرْتَعُه وخيم، وعاقبته سيئة، فهو منبع الرذائل، ومصدر الشرور، ويكفيه سوءا انه وضعُ الشيء في غير موضعه، فهو انحراف عن العدالة، ومتى شاع وفشا في أمة، أهْلَكَها، وإذا حلَّ في قرية أو مدينة دمَّرها، فهو فساد واي فسادن بل هو والفساد قرينان، إذ بهما تخرَب الديار، وتزول الأمصار، وتقلُّ البركات، ويحل الفشل محلها. ما أبشعه من خلق، وما أشده من مرض، فهو من الذنوب العِظام والكبائر الجِسام، يُحيطُ بصاحبه ويُدمِّره، ويُفسِد عليه أمرَه، ويُغيِّرُ عليه أحوالَه، فتزولُ به النعم، وتنزل به النِّقَم، ويُدرِكُه شُؤمه وعقوباتُه في الدنيا وفي الآخرة، كما تُدرِكُ عقوبات الظلم الذُّريةَ.
ولأجل كثرة مضار الظلم وعظيم خطره وتنوُّع مفاسده وكثير شرِّه؛ حرَّمه الله بين عباده كما حرَّمه على نفسه، فالظلم حرامٌ بإجماع الكتاب والسُّنَّة وقوانين الدول؛
قال تعالى
﴿وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾
[الفرقان19]
وقال تعالى
﴿وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ﴾
[الشورى8]
وورد في الحديث القدسي
عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربِّه عز وجل أنه قال
((يا عبادي، إني حرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظالموا...))
فالله حرَّم الظلمَ على نفسه - وهو يقدر عليه - تكرُّمًا وتفضُّلاً وتنزيهًا لنفسه عن نقيصة الظلم؛ فإن الظلمَ لا يكون إلا من نفسٍ ضعيفة لا تقوَى على الامتناع من الظلم، ولا يكون الظلمُ إلا من حاجةٍ إليه، ولا يكون إلا من جهلٍ، والله - عز وجل - مُنزَّهٌ عن ذلك كلِّه، فهو القوي العزيز الغني عن خلقه فلا يحتاجُ إلى شيء، وهو العليمُ بكل شيء.
وحرَّم الله الظلمَ بين عباده ليحفظوا بذلك دينَهم ويحفَظوا دنياهم، وليُصلِحوا أمورهم، وليُصلِحوا دنياهم وآخرتهم، وليتمَّ بين العباد التعاوُن والتراحُم بترك الظلم، وأداء الحقوق لله ولخلق الله تعالى.
ولقد حذَّرنا الله من الظلم غاية التحذير، وأخبرنا - تبارك وتعالى - بأن هلاك القرون الماضية بظلمهم لأنفسهم لنحذَر أعمالهم،
فقال تبارك وتعالى
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾
[يونس13-14]
وقال تعالى
﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾
[الكهف59]
وقال تبارك وتعالى
﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
[الحج45-46]
وقال تبارك وتعالى
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾
[هود102]
ويكفي تخويفا منه أن عاقبة أهله وخيمة، ونهايتهم أليمة، فإذا قرأنا التاريخ رأينا كيف أهلك اللهُ المفسدين في الأرض بغير حقٍّ، ويبغون فيها، والعبرة لمن اعتبر، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب، فذكر الله في القرآن من عقوبات الظالمين:
- أن الله سبحانه وتعالى يمهلهم ولا يهملهم:
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعًا
((إنَّ اللهَ ليُمْلِي للظالم، فإذا أخذه لم يُفْلِتْهُ))
﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾
[هود102]
ندم الظالمين: قال تعالى
﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا * وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾
[الفرقان: 25 – 29]
والله يتوعَّد الظالمَ الباغيَ بالانتقام العظيم، والعذاب الأليم، وعلى الناس كذلك أن يَقفوا له،
ويأخذوا على يديه
﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[الشورى41-42]
فالذي ينتصر مِمَّن ظَلَمه، ما عليه من مُساءلة، وما عليه من مؤاخذة، وما عليه من ملامة،
وما عليه من سبيل، قال تعالى
﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾
[الشورى39]
والله تعالى يقول
﴿ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾
[البقرة: 194]
وهذا إِذْن سماويٌّ بمعاونة المظلوم ومساندتِه في البحث عن حقِّه المسلوب، واسترداد مالِه المنهوب،
بل وعودة كرامته وحريَّته
﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾
[الحج: 39]
وقع عليهم الظلم، ومن ثَم انتدبهم اللهُ لاسترداد حقهم، وهو معهم ينصرهم ويسدِّدُهم، وما عليه
ثم أختم كلامي بنصيحة للظالم والمظلوم:
على الظالم أن يدرك أنَّ شرَّه وخيم، وأنه لن يموت حتى ينتقم الله سبحانه وتعالى منه إن لم يتُبْ، والظلمُ ظلماتٌ يومَ القيامةِ كما ورد في الحديث، أخرج مسلم في صحيحه،
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال
((اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ))،
لا تظلمن إذا ما كنتَ مُقتدِرا فالظلم يرجع عقباه إلى الندمِ تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
ويا أيها المظلوم: هل تظن أن الله تعالى غافل عن مظلمتك، أو لن يأخذ حقك ممن ظلمك، فالله تعالى هو الحَكَمُ العدل، ولا يظلم ربك أحدًا، فلا تيأس ولا تحزن؛ فإن الله معك، فكن صابرًا على بَلِيَّتِك، واثقًا بربِّك، مستبشرًا بأن ظالمك لن يهنأ بعَيشٍ، وفي كاهله أثقال المظالم، بل سيعيش في شقاء وتعاسة، وضيق وسجن نفسي، لا يخرج منه، حتى يخرج من المظالم، ويتوب من المآثم، أو يأخذ جزاءه عاجلًا أم آجلًا.
احذر يا ظالم دعوات من ظلمته! احذر يا ظالم أنين من حرمته! احذر يا ظالم سهام الليل؛ فهي عند الله عظيمة وإن طال أثرها، وإن نسيتها، أو نسيها أصحابُها! فإن الله لن ينساها، ولن يترك أصحابَها! فالحذرَ الحذرَ -عباد الله- من الظلم بكافة أشكاله وصوره، وعلى من ظلم غيره أن يعجِّل بالتوبة النصوح قبل فوات الأوان، وحلول الأجل.