الإحساس بالألم
النص الشريف:
إن الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا(56)
سورة النساء
الدلالة اللغوية : وقوله: (نُصْلِيهِمْ) من الإصلاء وهو إيقاد النار ، وقال الخليل: صَلِيَ الكافرُ النارَ؛ أي: قاسى حرَّها، وقال الطبري: سوف يُنضَجون في نار يُصْلَون فيها؛ أي: يُشْوَون فيها، (نضجت) يقال: نضج الشِّواء إذا بلغ حدّ الشيّ (). و«كل» تدل على دوام العذاب وعدم انقطاعه ، ويحتاج لفظ (كُلما) إلى جملتين، تترتَّب إحداهما على الأخرى، فتَرَتَّب تبديلُ الجلود إذًا على نُضْجها. والمراد هنا: احتراق الجلود احتراقا تاما. وقوله (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) جملة تعليلية لقوله (بَدَّلْناهُمْ) أى بدلناهم جلودا غيرها ليقاسوا شدة العذاب، وليحسوا به في كل مرة (). ومما ورَد في كتب اللغة من تعريف التبديل، (وهو مصدر بدَّلناهم الواردة في الآية): تغيير الصورة إلى صورة أخرى، مع بقاء الجوهرة بعينها. أما الإبدال، فهو مصدر للفعل (أبدلناهم)، فهو يعني تَنحية للجوهرة، واستئنافَ جوهرة أخرى مختلفة تمامًا؛ أي: وضْع شيءٍ مغاير تمامًا مكانَ شيءٍ آخر. قال ثعلب مُعلِّقًا على هذه الآية فيما نقَله صاحبُ التاج: فهذه هي الجوهرة نفسُها، وتبديل الجلود تغييرُ صورتها إلى غيرها؛ لأنها كانت ناعمة، فاسْوَدَّت من العذاب، فرُدَّتْ صورة جلودهم الأولى لَمَّا نضِجت تلك الصورة، فالجوهرة إذًا واحدة، والصورة هي المختلفة.
أقوال المفسرين: قال ابن جرير الطبرى: وقوله (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) بيان لشدة العذاب ودوامه فالتبديل على هذا تبديل حقيقى مادى. بمعنى أن يخلق الله- تعالى- مكان الجلود المحترقة جلودا أخرى جديدة مغايرة للمحترقة. وقال الفخر الرازى هى كناية أو استعارة على دوام العذاب لهم وعدم انقطاعه عنهم وهذا يعنى: كلما ظنوا أنهم نضجوا واحترقوا وانتهوا إلى الهلاك، أعطيناهم قوة جديدة من الحياة. وعن النبي ﷺ قال: " يعظم أهل النار في النار ، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا ، وإن ضرسه مثل أحد "(). وقال الطاهر بن عاشور: قوله: { ليذوقوا العذاب } تعليل لقوله: { بدّلناهم } فلو لم يبدّل الجلد بعد احتراقه لما وصل عذاب النار إلى النفس. وتبديل الجلد مع بقاء نفس صاحبه لا ينافي العدل لأنّ الجِلد وسيلة إبلاغ العذاب وليس هو المقصود بالتعذيب ، ولأنّه ناشىء عن الجلد الأوّل كما أنّ إعادة الأجسام في الحشر بعد اضمحلالها ، فقد صارت هي هي ولا سيما إذا كانت إعادتها عن إنبات من أعجاب الأذناب ، حسبما ورد به الأثر ، لأنّ الناشىء عن الشيء هو منه كالنخلة من النواة.
التوجيه العلمي:
أولا: تركيب جلد الإنسان ووظائفه:
يتكون الجلد من 3 طبقات رئيسية وهي: البَشَرة Epidermis ، الأدَمَة Dermis ، نسيج تحت الجلد وهو نسيج دهني ، ويحوي الجلد سبع طبقات ، ويحمي العضلات والعظام والأربطة والأعضاء الداخلية (). ويَبلغ متوسط سُمك طبقة البشرة 0,1 ملليمترًا ولا يوجد بها أية أوعية دموية على الإطلاق (وهى أربع طبقات) ، وإن وجدت بها بعض النهايات العصبية وجسيمات الحس , ومستقبلات اللمس والتي تعين على التمييز بين الأجسام والأنسجة المختلفة. وتقسَّم طبقة الأدمة التي تلي البشرة إلى طبقتين ، ولكلٍّ منهما خلاياها الخاصة، وسمكها 3-4 ملليمترات وتنتشر فيها الأوعية الدموية , والليمفاوية , والنهايات العصبية , وجسيمات الحس وتمركزها, بالإضافة إلى الغدد العرقية, والدهنية, والزيتية وبصيلات الشعر وعضلاته , والأظافر (). ويبلغ سُمك الأدمة (الطبقة الوسطى) نحو 15-40 ضعف سمك البشرة. أما النسيج تحت الجلد ، وهو الطبقة الداخلية ، فهو في جميع الناس أسَمك كثيراً من كل من البشرة والأدمة.
شكل (1) صورة توضيحية مكبرة لتركيب جلد الإنسان
ثانيا: الإحساس بالألم:
المصاب باحتراق الجلد كاملا (حروق الدرجة الثالثة) ، وتفحم العضلات وربما تصل للعظام (حروق الدرجة الرابعة) لا يشعر بالألم كثيرا نتيجة تلف النهايات العصبية الناقلة للألم، بخلاف الحروق الأقل درجة كحروق الدرجة الأولى التى تسبب الضرر للبشرة ، بينما حروق الدرجة الثانية تصل من البشرة إلى الأدمة حيث يكون الألم على أشده نتيجة لإثارة النهايات العصبية المكشوفة ().
شكل (2) يبين درجات الحروق من الدرجة الأولى حتى الثالثة والتى يكون فيها الإحساس بالألم
وتوصل العلماء بعد دراسات مستفيضة لمدة خمسين عاما على كيفية إعادة ما دمر من الجلد من حروق شديدة فلم يجدوا أنسب من تبديل الجلد المحترق بجلد سليم Skin graft)) من نفس الشخص( ، ). وأثبتت الدراسات الحديثة أن الحروق الشديدة تؤدى إلى زيادة الضغط الداخلى فى البطن()، وقد يمتد الألم ليشمل مناطق أخرى فى الجسم ، وقد يؤدى إلى فشل كلوى وهبوط فى الدورة الدموية وخفقان القلب
أوجه الإعجاز العلمى:
هذه الآية الكريمة تؤكد أن إحساس الإنسان بالألم يتركز في الجلد , وأنه إذا انتزع الجلد فقد الإنسان الإحساس بالألم , وهذه الحقيقة العلمية لم يدركها الأطباء إلا في القرن العشرين بعدما اكتشفوا وجوود ملايين المستقبلات الحسية الموزعة في جلد الإنسان , وأن عددا من هذه المستقبلات مخصص للمس , أو للشعور بالضغوط الخفيفة والثقيلة , وأن عددا آخر مخصص للشعور بالألم , ومجموعة ثالثة مخصصة للشعور بالاختلاف في درجات الحرارة هبوطا أو صعودا عن درجة حرارة الجسم (37 درجة مئوية) , أن الجلد هو الجزء الأغنى بنهايات الأعصاب الناقلة للألم ، والحروق الأقل درجة يكون الألم على أشده، ومن ثم فإن تبديل الجلود المحروقة بأخرى سليمة مما يزيد من عذابهم. وقد سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى ذلك فقال ربنا ـ تبارك وتعالى: " بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .." وفي ظل الآية الكريمة، نرى أن أهل النار سيذوقون عذابها، وهذا يعني أن شعورهم بمذاق العذاب لا يقف بُرهة ولا يَنفك، فطعمه إذًا دائم مستمر ، أما إن قيل: إنهم سيتذوقون العذاب - لكان حينها طعمُ ذاك العذاب متدرِّجًا، وقد تتخلَّله فترات من الراحة والهدوء، أو فواصلُ من عدم التعرض للعذابِ، وهذا ما نفَته الآية الكريمة نفيًا قاطعًا، حين اختارت أسلوب ذوق العذاب لا تذوُّقه ، مُصوِّرًا للحالة التي سيكون عليها العذاب في النار، فإنَّه عذابًا لا يقف بُرهة خلال عملية الشِّواء، بل إنَّ الألَم يبدأ من لحظة تلامُس النار مع الجلد، ويستمر ويزيد تدريجيًّا؛ ليتدرَّج الحرق بَدءًا من الدرجة الأولى وحتى الرابعة، ويبدل الجلد المحترق ويخضع هذا الجلد الجديد لعملية تعذيبٍ أخرى. وتعتبر هذه الآية القرآنية الكريمة سبقا لجميع هذه المعارف المكتسبة بأكثر من أربعة عشر قرنا , ولا يمكن لعاقل أن يتخيل مصدرا لهذا الحق الذي جاء فيها غير الله الخالق (سبحانه وتعالى) من خلال نبيه محمد ﷺ وهذا يدل على صدق الرسالة وصدق الرسول ، والحمد لله رب العالمين.
مع خالص تحياتى وتقديرى
أ.د./ حنفى مدبولى جامعة بنى سويف- مصر
ورئيس اللجنة الطبية بالمركز الدولى للإعجاز العلمى للبحوث والتدريب