التسابق إلي الخيرات
أعمار الناس قصيرة، وآجالهم قريبة، ولا يدري أحد متى يأتيه الموت، فمن أراد الفوز فعليه بالمسارعة إلى الخيرات، والمبادرة إلى الطاعات، والسبق إليها، والاستعجال في أدائها، وعدم تأخيرها.
والدنيا مزدرع الأعمال، ومضمار تنافس الخيرات، ينال لذَّة فوزها المسارعون؛ فما حقيقة تلك المسارعة؟ وما وزنها عند الله – جل وعلا -؟ ومتى تتأكد؟ وما أسباب دركها؟
المسارعة: تعني المسارعة في الخير مبادرة للبر، والعجلة المحمودة الموصلة إلى القرب، يقودها حب لله - جل وعلا -، وخوف منه، ورجاء فيه، من حين يسنح ذلك الخير؛ لتبيِّنه، وحسن عاقبته، وذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة".
المُسَارَعَةُ إلى الخَيْرَات: هي المُبادَرَةُ إلى الطَّاعاتِ القَلْبِيَّةِ والقَولِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ، والاسْتِكْثارُ منها، مع الرَّغبَةِ فيها، والسَّبْقِ إليها بِلا تَرَدُّدٍ، أو إِبْطَاءٍ.
وهُنَاكَ تَقَارُبٌ في المَعْنَى بين المُسَارَعَةِ، والمُسَابَقَةِ، والمُنَافَسَةِ: وأَصْلُ المُسابَقَةِ التَّقَدُّمُ في السَّيْرِ، ويُسْتَعارُ السَّبْقُ لإِحْرازِ الفَضْلِ والتَّبْرِيزِ،
ومن ذلك قَولُه تعالى
﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾
[الواقعة:10]
أي: المُتَقَدِّمون إلى ثَوَابِ اللهِ وجَنَّتِهِ؛ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
فالسَّابِقونَ في الخَيْراتِ؛ هُمُ السَّابِقون في الآخِرَةِ لِدُخولِ الجَّنَّاتِ في أعلى عِلِّيِّينَ، في المَنازِلِ العَالِياتِ، التي لا مَنْزِلَةَ فَوقَها.
إن المؤمن الحق لا يكون إلا كيسًا فطنًا، ذكيًّا زكيًّا، يحرص على فعل الخير، ويسارع إليه، ويتحرى أهله، ويحضر مكانه، ويرتقب زمانه، فإذا شهد مناسبته، أو عرض له سببه، أو دُعي إليه - سبق إليه مجيبًا لداعيه، ففعل ما استطاع منه، واعتذر عما عجز عنه، ورجا من الله ثواب الاثنين بفضله ورحمته.
إن العبد الذي يستجيب لداعي الخير فيسارع إليه، ويسابق الناس فيه - لا شك أنه يفوز من الله الكريم بمنح كثيرة كريمة، وعطايا كبيرة جزيلة؛ فيعيش حياة طيبة كريمة، ويأمن من أن يحال بينه وبين قلبه، ويسلم من المحن، وينجو من الفتن، خصوصًا إذا استحضر النية، واحتسب الأجر عند ذي الكرم والجلال.
وكُلُّ مُنافَسَةٍ إلى الخَيرِ فِيهَا سَبْقٌ:
قال تعالى
﴿وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾
[آل عمران: 114]
أي: يُبَادِرونَ إليها، فيَنْتَهِزونَ الفُرْصَةَ فيها. والمُنافَسَةُ: مُجاهَدَةُ النَّفْسِ لِلتَّشَبُّهِ بِالأَفاضِلِ، واللُّحوقِ بِهِمْ من غَيرِ إِدْخالِ ضَرَرٍ على غَيرِهِمْ.
قال تعالى
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
[المطففين: 26]
أي: وفي ذلك النَّعِيمِ المُقِيمِ، الذي لا يَعْلَمُ حُسْنَهُ ومِقْدَارَه إلاَّ اللهُ جلَّ شأنه، فَلْيَتَسابَقِ المُتَسابقون، ولْيُبَادِروا إليه، بالأعمالِ الصَّالحةِ، فهذا أَولَى ما بُذِلَتْ فيه نَفائِسُ الأنْفاسِ، وأَحْرَى ما تَزاحَمَتْ - للوصول إليه - فُحُولُ الرِّجَاِلِ.
فللمسارعة في الخير حظوةً عند المولى - جل وعلا -؛ حيث تجعل المؤمن يقف إزاءها متدبراً لحاله، ساعياً في كماله، إذ انها: -
- سبب لرضا الله عن عبده
كما قال موسى - عليه السلام
﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾
[طه:84]
- وهي سبيل لغفران الذنوب،
كما قال تعالى
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
[آل عمران: 133]
﴿إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِين﴾
- سبيل من سبل الجنة الموصلة إلى رضوان الله، فالجنة جزاء من سارع في الخير:
﴿أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين)
يقول الله – تعالى
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾
[آل عمران: 133: 134]
وقد عبر القرآن الكريم عن المسارعة في الخيرات بالسباق، كأن الصالحين في تسابقٍ كريمٍ أيهم يحوز الفضل قبل الآخر، قال
الله تعالى
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
[الحديد:21]
وثمة أمور أربعة تنشأ عنها المسارعة في الخير:
- الإشفاق من خشية الله.
- الإيمان بآياته الشرعية والحسية.
- ترك الإشراك به شركاً أكبر أو رياءً يخالج العمل الصالح.
- دوام ذكر الرجوع إلى الله - جل وعلا -.
ومتى ما حلّت هذه المعاني في قلب المؤمن؛ فلا تسل عن مسارعته في الخير؛ إذ الغاية سامقة، والحادي سائق، والصارف مدفوع.
قال الإمام ابن جرير الطبري مبينا [﴿وَسَارِعُوا﴾ بادروا وسابقوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ يعني: إلى ما يستر عليكم ذنوبكم من رحمته، وما يغطيها عليكم من عفوه عن عقوبتكم عليها ﴿وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ يعني: وسارعوا أيضًا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
وكان الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم -دائما ما يحثُّ على المُسارَعة إلى الأعمال الصالحة؛ ويخوّف المؤمن من أن تضيع فرصته فلا يغتنم عملا، فإن المؤمن لا يَدرِي ما يَعرِض له من مرضٍ، أو فتنة، أو أجل، فعن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((بادِرُوا بالأعمال فِتَنًا كقطع الليل المظلم؛ يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، أو يُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا))، وعن مصعب بن سعد عن أبيه، أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((التُّؤَدة في كلِّ شيء، إلا في عمل الآخرة))، وقد كان الصحابة -رضِي الله عنهم -يَأخُذون بهذا التوجيهِ النبوي الكريم فيَتَسابَقُون إلى الأعمال الصالحة، ويَتَنافَسُون في أعمال الآخرة،
كما أرشد إلى ذلك ربُّنا - سبحانه وتعالى – فقال
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾
[المطففين: 26]
وهكذا تزداد الفتن وعوارض المنع من الأعمال الصالحة، وعندما يزيد الخطر فتكون الدعوة بالمسارعة إلى العمل الصالح أهدى سبيلاً وأقوم قيلاُ خصوصاً قبل بزوغ الفتن الكبرى كما قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((بادِروا بالأعمالِ سبعًا هل تنتظِرونَ إلا إلى فَقرٍ مُنسٍ أو غِنًى مُطغٍ أو مرضٍ مُفسدٍ أو هَرَمٍ مُفَنِّدٍ أو موتٍ مُجهِزٍ أو الدجَّالِ فشَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ أو الساعةِ فالساعةُ أَدهَى وأمَرُّ))
ولذلك ينبغي لنا أن نجتهد في استغلال الأوقات بالطاعات، وكل ما يقرب إلى رب الأرض والسماوات.
فلنسارِع جميعا إلى المغفرة والجنَّات في استِباق الخيرات، واغتِنام الأوقات؛ فإنَّ في ذلكم التجارةَ الرابحةَ.
فالبِدَارُ هو الأفضل في زمن الاختيار، قبل أن يفوت قطار العمر بأحلامه وآماله، على الشباب أن يغتنموا الفرص، فإن الدهر دولٌ والأيام قُلَّبٌ لا تستقر على حال مثل السفائن التي تركب الأمواج على أديم الخطر
وعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اغتنمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: حياتَك قبلَ موتِك، وصحتَك قبلَ سقمِك، وفراغَك قبلَ شغلِك، وشبابَك قبلَ هرمِك، وغنَاك قبلَ فقرِك)).