السماحة في الإسلام
يستشعر المسلم دائما عظمة دينه حين يتعرف على خصائصه التي لم يتميز بها دين غيره من الأديان، خاصة إذا كانت تلك الخاصية ترفع عن الناس الحرج، وتضع عنهم الإصر والأغلال التي كانت عليهم، ولا تكلفهم من الأمر ما لا يطيقون.
إنها لباب الإسلام وزينة الأنام، صدقا إنها ذروة سنام الأخلاق، وأشهر علامات الوفاق.. كم فتحت به قلوب، وكم رفعت أصحابها عند علام الغيوب، ألا ما أحب صاحبها عند الناس، بل وأعظم منه عند رب الناس. بل أقولها ولا آلو، وإن جفى الناس أو غالوا إنها وربي أفضل الإيمان وأزكاه، وأقربه وأصفاه، وأميزه وأعلاه، وأوضحه وأجلاه، صاحبها بالجنان كريم مثواه، وعن النار حرام محياه.
هذا الوصف الغالي الذي مر ذكره هو ما يسمى بـ ((خلق السماحة)).
السماحة خلق جليلٍ، أثنى به ربنا على رسولنا صلى الله عليه وسلم،
فقال عز من قائل
﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾
[التوبة:128]
إنه خلق ما أجمله! فمن اتصف به، تراه محبوباً، مقبولاً قريباً من الناس، إنه خلق هذا الدين، وخلق أهل هذا الدين، قال: "أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة، وفي رواية "أفضل الإسلام الحنيفية السمحة"، أن تكون حنيفاً لله تعالى، قائمًا بتوحيده، نابذاً للشرك ولأهله، ثم تكون بعد ذلك سمحاً، خلوقاً، متسامحاً مع الناس.
قد جاءت رسالةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسماحة والتسامح، والصَّفح، وحسن التعايش مع كافة الناس بصرف النظر عن معتقداتهم أو ألوانهم أو أعراقهم، إذْ تعاملت مع الجميع على حدٍّ سواء دون أدنى تمييز، ولئن كان خُلُق التسامح قد ارتبط لدى الغرب بالمسألة الدِّينية بكونه حلاً للمشكلات والخلافات التي نشأت داخل البيت النصراني (الكنيسة) من جهة، ومن جهة أخرى بكونه مصطلحًا خاصًّا بالمجتمعات الغربية التي تدعو إلى التسامح والتعايش بطريقة تقتضي تقبُّل الآخَر، واحترام حريَّته الدينية، والسياسية، والفكرية، وغيرها.
فهو في كلتا الحالتين جاء استجابةً لمؤثِّرٍ خارجي، ونتيجةً لعوامل قهرية، تكبَّد خلالها العالَمُ الغربي النصراني خسائر فادحة في الأموال والأرواح، وليست الحرب العالمية الأُولى والثانية منَّا ببعيد؛ إذ هي تجسيدٌ واقعي لما نقول، فما شَهِدَه العالَم الغربي النصراني بسبب هاتين الحربين من خسائر في الأموال والأرواح فاق حدَّ الخيال.
والأمر مختلف تمام الاختلاف في الشريعة الإسلامية؛ إذ إنَّ خلق السماحة والتسامح هو أصل أصيل في هذا الدِّين، وركن ركين، جاء به ابتداءً، ودعا إليه، وحثَّ عليه، بل ومارَسَه وطبَّقه واقعًا عمليًّا.
ولئن تشَدَّق الغرب بقولهم وبهتانهم عن انتشار حضارتنا بحدِّ السيف! فإنَّنا نردُّ عليهم بقولنا: إنَّ السماحة والتسامح كانتا هما السبب الحقيقي لنشر هذا الدِّين، والذي تم دخول الناس تحت لوائه بفضلهما، وبنظرة فاحصةٍ مُتأنِّية إلى خريطة العالَم التي شملها الفتح الإسلامي، فمع اتِّساعها وامتدادها شرقًا وغربًا إلاَّ أنَّ الملاحظ عليها والثابت تاريخيًّا قلَّة أعداد القتلى في هذه المعارك، فحربٌ واحدة من الحروب الدِّينية الطائفية التي شهدتها أوروبا في العصور الوسطى تفوق في عدد قتلاها عددَ القتلى في الفتوح الإسلامية مُجِتَمِعة، وهذا مرجعه إلى ما جاء به الدِّين الإسلامي من السماحة والتسامح.
ومن ثَمَّ، فإنَّ السماحة والتسامح يُعدُّ في الرسالة المحمدية منحةً إلهيةً رفَعَ اللهُ بها شأنَ هذه الرسالة الخالدة، وسِمَةً بارزة من سماتها، بل هو سلوكٌ حضاري إسلامي، يحفظ للأمة المحمدية توازنها، واعتدالها وخيرِيَّتها، وقد جسَّده النبي -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله، مع أصحابه، والمشركين، واليهود والنصارى، وعموم أعدائه، فكان تعامله -صلى الله عليه وسلم- مع البشرية جمعاء مثلاً يُضرب في العفو والصفح والإحسان والعدل والسماحة والتسامح؛ لذا اكتسبت رسالته صفة القبول والمحبة لدى الناس الذين لمسوا منه هذه الأخلاق الرفيعة.
جاء هذا الدين سمحاً في عباداته، سمحاً في أحكامه، وقصد التيسير في تشريعاته،
فقال عز من قائل
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
[البقرة:185]
ويقول جل شأنه
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾
[البقرة:286]
فهو دين السماحة والتيسير، ومن صور السماحة فيه
- الرخصة للمضطر بالأكل من المحرمات؛
قال الله تعالى
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
[البقرة:173]
- الرخصة للمريض والمسافر بالإفطار في رمضان؛
قال الله تعالى
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾
[البقرة:184]
- الرخصة للمسافر بقصر الصلاة؛
قال الله تعالى
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
[النساء:101]
- الرخصة لمن أكل وهو ناس في رمضان أن يتم صومه؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ
- أن تختبر نفسك في موضع البيع والشراء، فعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وسمحاً إذا اشترى"، فهل أنت ممن يتصف بهذا الخلق؟، إذا بعت، إذا اشتريت، إذا أخذت أجرة عملك، إذا دفعت للأُجراء أجرهم، هل أنت ممن يتصف بهذا الخلق؟
- اختبر نفسك عند الاقتضاء، والمطالبة بالحقوق، فما منا من أحد إلا وله حقوق عند الناس، فكيف يرى نفسه في المطالبة بحقه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى"، هنا تظهر السماحة، فهي ليست بالدعوى، كيف حالك إذا أردت أن تطلب حقًا من غيرك؟
- اختبر نفسك مع من ظلمك، واعتدى على حقك، وأخطأ عليك، اختبر نفسك مع ذي رحم لك قطعها، اختبر نفسك مع رجل لك عليه الحق وجفاك، هل تتصف معهم بالسماحة؟ أما ربنا فقد
قال سبحانه
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾
[فصلت:34، 35]
ما أجمل السماحة!، ما أجمل السماحة! يُخطئ عليك إنسان ولا ترد عليه، يعتدي على حقك ولا تعتدي علية
﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾
[الفرقان:63]
وغير هذا كثير... لا مجال له الآن لعد الإطالة، وإنما قصدنا التذكير به لنتعلم أن دين الإسلام مبني أساسا على السماحة، فلابد ان نتخلق بما عوّنا عليه وحثنا إليه، فندبنا ديننا أن نتصف بهذا الخلق الذي قامت عليه أحكام ديننا، أن نكون كلنا من أهل السماحة، وحينئذ ستصفو القلوب، ويسود الوئام، ويسعد الأنام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق، قيل : ما القلب المحموم؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم ولا بغي ولا حسد، قيل : فمن على أثره؟ قال : الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل : فمن على أثره قال : المؤمن في خلق حسن)) أما هذه الغـلـظـة التي نراها في تعامـل بعضنا ليست من الدين في شيء، وإن هــذا الجفاء الذي نجده بين المسلمين هو أمر طارئ ومظهر يجب أن يختفي، إن المؤمن الحقيقي سمح مألوف، قال صلى الله عليه وسلم : (( المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس))، بل إن السماحة هي من أفضل الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم : (( أفضل الإيمان الصبر والسماحة).
فما أجمل أن يتصف الواحد منا بطيب القلب، بسخاء النفس، بكرم اليد، فيكون سمحا إذا أخذ حقه ما استوفاها، بل تنازل عن بعض حقه وشيء من حظ نفسه، ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر:9]، أو يتنازل عن حظ نفسه، وعن بعض حقه، في غير وقوع في محرم، لكن ليطيَب خاطر، أو ليألف قلب، أو ليطوي صفحة خصومة، فهنيئاً ساعتها لمن كان بهذه الخلال وتلك الخصال،
قال تعالى
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾
[الحشر:9]
فإذا أردت أن تعرف نفسك هل أنت من اهل السماحة أم لا فلتضع لنفسك اختبارات ومعايير منها
هذه صفات أهل السماحة، مسامحون، حتى على من أخطأ عليهم، مسامحون، ما أجمل هذا والله!، وصديق هذه الأمة، أبو بكر رضي الله تعالى عنه، كان يتصدق على رجل فقير من قرابته، كان ينفق عليه، فلما وقعت حادثة الإفك، كان هذا الرجل ممن خاض في عرض ابنة الصديق رضي الله عنها، وتكلم بالظلم والخطأ، فلما برأها الله من فوق سبع سماوات، وإذا بصديق الأمة يعيد عليه صدقته ونفقته، على هذا الفقير من أقاربه، أيُّ سماحة هذه وقد فعل ما فعل، أتدري لماذا؟،
لأن الله قال له
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
[النور:22]
حتى لو كنتَ قد أحسنتَ له بهذا الإحسان،
وهو أساء إليك بهذه الإساءة
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
[النور:22]
اختبروا سماحتكم مع أهليكم، "فخيركم خيركم لأهله"، إن الرجل إذا دقق على كل خطأ تقع فيه زوجته سئمت منه، وكرهت الحياة معه، ما أجمل أن تتغافل في غير حرام وغير خسة شرف، ما أجمل أن تتجاوز!، ما أجمل أن تسامح!، أما رسولنا عليه الصلاة والسلام، فكان خلقه المسامحة، يقول أنس رضي الله تعالى عنه: كان إذا أعجبه الطعام أكل، وإن لم يعجبه ترك" متفق عليه، يقول أنس رضي الله تعالى عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي في شيء فعلته: لم فعلته؟، ولا قال لي في شيء لم أفعله: لِم لم تفعله"، متفق عليه.
هذه هي سماحة الدين، وسماحة الإسلام، فهل نحن من أهلها، أم أنا وأنت، ممن يتصف ممن يتصف بالشح؟، لنختبر أنفسنا إذا بعنا وإذا اشترينا، لنختبر أنفسنا إذا اقتضينا حقوقنا، لنختبر أنفسنا في تعاملنا مع من ظلمنا، ولنختبر أنفسنا كل يوم، في تعاملنا مع أهلينا وأولادنا، أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد قال: "أفضل الإيمان"، يا من تبحثون عن الإيمان، هاكم أفضله، "أفضل الإيمان: السماحة والصبر"، صححه الشيخ الألباني.
فلنتسامح.. يُسمح لنا، كما قالها عليه الصلاة والسلام: يا عباد الله، "اسمحوا يسمح لكم"، ألا تحب أن الله عز وجل يعفو عنك، فالله الله "إن الله حرم على النار كل هينٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناس".