الحاجة للوحي
لا يستطيع أحد ان يدعي استقلالية البشر وانعزالهم عن الاتصال بالسماء، فهم بحاجة إلى وحي من الله يعلمهم كيف يعيشون ويتعاملون، لأن الإنسان لا بد له من معرفة مواقع رضا الله سبحانه ومواقع سخطه، ولا بد له من حركة يجلب بها منفعته، وحركة يدفع بها مضرته، والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفع والتي تضر، وهو عدل الله في خلقه، ونوره بين عباده، فلا يمكن للناس أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه وما يتركونه.
وإذا كان للإنسان إرادة فلا بد من معرفة ما يريده، وهل هو نافع أو ضار؟ وهل يصلحه أو يفسده؟
وهذا قد يعرفه بعض الناس بفطرهم، وبعضهم يعرفونه بالاستدلال إليه بعقولهم، وبعضهم لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم إياهم،
قال تعالى
﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ﴾
[النساء: 165]
فلابد إذا من أجل معرفة الطريق الصحيح للحياة في كلّ أبعادها وجوانبها، من التعرُّف على الحدود التي تحدد للإنسان مبادئ تعامله في الحياة، ولا يكون ذلك إلا ممن بيده ملكوت كل شيء وهو الأعلم بمن خلق، فيحدد علاقاته بسائر الموجودات، ويضع له الضوابط التي يمكن له إقامتها وعقدها مع بني نوعه وسائر المخلوقات، وتأثير هذه الروابط والعلاقات المختلفة في سعادته وشقائه، وكذلك يحدّد نسب المنافع والمضار، ودرجات المصالح والمفاسد المختلفة ومقاديرها، والموازنة بينها، لتتحدّد بذلك وظائف هذا العدد الكبير من البشر، والذي يتميّز بخصائص بدنية ونفسية متفاوتة ومتغايرة، وكلّ منهم يعيش ظروفاً طبيعية واجتماعية مختلفة، ولكن الإحاطة بكلّ هذه الأُمور لا تتيسر، ليس لفرد أو لجماعة معيّنة فحسب، بل للآلاف من الجماعات المتخصصة، في مختلف العلوم المرتبطة بالإنسان. لا يمكنهم اكتشاف مثل هذه المعايير والقواعد المعقدة وبيانها على شكل قوانين وأحكام دقيقة ومضبوطة ومحدّدة، لتكفل بذلك توفير كلّ المصالح الفردية والاجتماعية، المادية والمعنوية، الدينية والأخروية، لكلّ البشر وحينما يقع التزاحم والتضاد والتعارض بين أنواع المصالح والمفاسد وكثيراً ما يحصل ذلك يعين المصلحة الأهم بدقة، ويقدّمها في المجال العملي.
إنّ ما يلاحظ من مسيرة التغييرات الحقوقية والقانونية عبر تاريخ البشر مؤشر على أنّه لم يوجد حتى اليوم بالرغم من كلّ البحوث والجهود التي بذلها الكثير من العلماء المتخصصين عبر آلاف السنين نظام حقوقي وقانوني صحيح وكامل وشامل والملاحظ أيضاً أنّ المقننين والمؤسّسات الحقوقية والقانونية في العامّ، تتوصل دائماً إلى نقاط الضعف في القوانين الوضعية، ولذلك يحاولون إصلاحها أو تكميلها، إلغاء مادة أو نسخها، أو إضافة مادة لها أو إلحاق ملاحظة بها. ويجب علينا ألا نغفل عن أنّهم استفادوا كثيراً في تقنين هذه القوانين وتدوينها من الأنظمة الحقوقية والقانونية الإلهيّة، والشرائع السماوية. وكذلك ينبغي أن نعلم بأنّ جهود المقننين والحقوقيين متوجهة لتوفير المصالح الدنيوية والاجتماعية، دون الاهتمام بتوفير المصالح الأخروية، وملاحظة مدى علاقتها بالمصالح الدنيوية والمادية، وإذا ما أرادوا الاهتمام بهذا الجانب الذي يعتبر أكثر الجوانب أهميّة في هذا المجال، فإنّهم لن يتمكّنوا من الوصول إلى نتائج يقينية قاطعة، وذلك لأنّ المصالح المادية والدنيوية يمكن التعرُّف عليها إلى حدٍّ ما وتحديدها، من خلال التجارب العملية.
أمّا المصالح المعنوية والأخروية، فإنّها لا تقبل التجربة الحسِّية، ولا يمكن تقويمها بدقّة، وحين تتزاحم وتتعارض مع المصالح المادية والدنيوية، فلا يمكن التعرُّف على معيار لقياس أهميّة إحداهما.
ومن خلال ملاحظة الحالة الراهنة التي تعيشها قوانين العلوم في سائر مجالاته، فإننا يمكن لنا تقويم العلم البشري عبر آلاف أو مئات الآلاف من السنين لنتوصّل لهذه النتيجة اليقينية: إنّ الإنسان البدائي أكثر عجزاً من إنسان عصرنا في تحديد الطريق الصحيح للحياة، وعلى تقدير وصول إنسان عصرنا إلى نظام حقوقي قانوني صحيح، كامل وشامل من خلال تجارب آلاف السنين... وعلى تقدير القول بأنّ هذا النظام يتكفّل توفير السعادة الأبدية والأخروية، فإنّ هذا السؤال يبقى ملحاً: كيف يتلاءم إهمال الأجيال الكثيرة التي عاشت عبر التاريخ الطويل في ظلم جهلها مع الحكمة الإلهيّة والهدف من خلقهم؟
والحاصل:
أنه من أجل معرفة الطريق الصحيح للحياة فلابد من قوانين للعلوم تقنن بها تلك العلوم، فتكون في كل أبعادها وجوانبها على دراية تامة بمبدأ وجود الإنسان ومصيره، وعلاقاته بسائر الموجودات حوله، والروابط التي يمكن له إقامتها وعقدها مع بني نوعه وسائر المخلوقات، وتأثير هذه الروابط والعلاقات المختلفة في سعادته وشقائه، وكذلك عليه أن يحدد نسب المنافع والمضار، ودرجات المصالح والمفاسد المختلفة ومقاديرها، والموازنة بينها، لتتحدد بذلك وظائف هذا العدد الكبير من البشر، والذي يتميز بخصائص بدنية ونفسية متفاوته ومتغايرة، وكل منهم يعيش ظروفا طبيعية واجتماعية مختلفة، ولكن الإحاطة بكل هذه الأمور لا تتيسر، ليس لفرد أو لجماعة معينة فحسب، بل للآلاف من الجماعات المتخصصة، في مختلف العلوم المرتبطة بالإنسان. لا يمكنهم اكتشاف مثل هذه المعايير والقواعد المعقدة وبيانها على شكل قوانين وأحكام دقيقة ومضبوطة ومحددة، لتكفل بذلك توفير كل المصالح الفردية والاجتماعية، المادية والمعنوية، الدنيوية والأخروية، وكل هذا لن يتوافر إلا فيمن خلق الخلق وهو أعلم وبما أصلحه وسيصلحه،
الا وهو الله الذي
{يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
[الملك 14]
- إنّ هناك الكثير من المعلومات التي يمكن للعقل الإنساني إدراكها، ولكن ربّما يغفل عنها إمّا لاحتياجها لزمان طويل وتجارب كثيرة، وإمّا نتيجة اهتمام الأفراد وإنهماكهم في الأُمور المادية وسيطرة الميول الحيوانية عليهم، أو ربّما تغيب عن الناس نتيجة للتربية المنحرفة أو الإعلام السيِّئ أن مثل هذه المعلومات يبينها الوحي للناس، ليمنعوا من نسيانها تماماً، من خلال تذكيرهم وتأكيدهم الدائم عليها، وليواجهوا المغالطات والتعليمات السيِّئة بتعليماتهم الصحيحة والمنطقية.
- من العوامل التي تعين على التكامل العلمي، الحصول على التكامل الروحي والأخلاقي، وهذا لا يتحقق إلا من طريق هو الوحي،ذلك الوحي الذي انوله الله على انبيائه، الهدف منه الاستفادة بصورة مباشرة، لهذه الأمة ولغيرها من الأمم، وهذا الزمان وغيره من الأزمان.
﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء ﴾
(آل عمران:179)
- مع ما تتميز به العلوم البشرية من اختيارات واعية، ومع توفر الظروف والأجواء الخارجية لممارسة الأعمال المختلفة، ووجود الميل والدافع الداخلي لها، إلا أنها لا تستغني بحال عن المعرفة الصحيحة حول الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة، والطرق الصالحة وغير الصالحة، ولا يتحقق هذا إلا بمعرفة الهدف من إيجاده، وطريق الوصول الى تحقيق ذلك الهدف، ويتعرف على العقبات والعراقيل والانحرافات والمزالق.
وهذه الشمولية للزمان والمكان لا تتحقق إلا بمن عنده إحاطة بالغيب والحاضر، وأدرى بما صلح به من مضى، ليصلح به من يأتي ومن أتى.
وكل هذه الأمور لا تتحقق إلا بمن له اتصال بالله الذي يعلم الغيب، وليستفيد منه الآخرون عن طريق الوحي، وليتعلموا منه كل ما يحتاجون اليه، من أجل الوصول إلى السعادة والكمال النهائي. فتوجد العوامل التي لها تأثيرها الفاعل في التربية وفي رشد الإنسان وتكامله، مع وجود القدوة السابقة والحالية. وقد عانت العلوم البشرية -حين تخلّت عن الوحي الإلهي، واهتمت فقط بالجانب الحياتي –معاناة بالغة الأسى فحدث الاضطراب والخلل، ولما اتصلت بالوحي الإلهي الذي أنزله الله لصلاح البشرية صلحت أحوال البشرية بما يقوم به حياتهم ومعاشهم.
فمقتضى الوحي الإلهي توفير الوسائل والمستلزمات الضرورية للبشرية ليتمكنوا من الحصول على مثل هذه المعارف والمدركات، فيصير بهذا العلم أهلا لتولي القيادة في شتى المجالات الاجتماعية والسياسية والقضائية، حينما تتوفّر الظروف اللازمة لذلك.
وبديهي أنّ الوحي المعصوم من أعظم النِّعَم الإلهيّة للمجتمع، حيث تعالج بواسطته الكثير من المعضلات والاضطرابات الاجتماعية، ويتم إنقاذ الأُمّة من الاختلاف والتنازع والفوضى والانحراف، ليقودها باتجاه كمالها المنشود.
وختاما ... فإنه يجب علينا أن لا نغفل عن استفادت كثير من العلوم البشرية بالكثير من الوحي الإلهي، والشرائع السماوية.
وكذلك ينبغي أن نعلم بأن جهود المقننين والحقوقيين متوجهة لتوفير المصالح الدنيوية والإجتماعية، دون الاهتمام بتوفير المصالح الأخروية وملاحظة مدى علاقتها بالمصالح الدنيوية والمادية، وإذا ما أرادوا الاهتمام بهذا الجانب الذي يعتبر أكثر الجوانب أهمية في هذا المجال فانهم لن يتمكنوا من الوصول إلى نتائج يقينية قاطعة، وذلك لأن المصالح المادية والدنيوية يمكن التعرف عليها إلى حد ما وتحديدها، من خلال التجارب العملية، أما المصالح المعنوية والأخروية فإنها لا تقبل التجربة الحسية، ولا يمكن تقويمها بدقة، وحين تتزاحم وتتعارض مع المصالح المادية والدنيوية فلا يمكن التعرف على معيار لقياس أهمية إحداهما، إلا عن طريق الوحي، الذي يجعل الإنسان سيدا في الكون لا تبعا لجمادات ولا نظم ومعلومات، هو من أوجدها، ولكن بالتطور العقلي والدنيوي يكون عبدا لها.
وهذا واضح من خلال من وقف على الرؤية الشاملة التي وضحها القرآن عن علاقة الإنسان بمن حوله، عن الإنسان وعن الطبيعة.
فالطبيعة "الكون" في القرآن الكريم كائن مسخر للإنسان:
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾
(الجاثية: 12)
؛ وأن هذا التسخير إنما كان ممكنا بسبب المواءمة التي جعلها الله، سبحانه وتعالى، بين الكون وبين الإنسان،
قال سبحانه وتعالى
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾
(الأعراف: 53)
وقال عز وجل
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾
(النحل: 12)
وقال سبحانه
﴿اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ﴾
(الجاثية: 11)
وقال تعالى
﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾
(الجاثية: 12)
كما أشار أن مواءمة الإنسان للكون هي الرافعة التي تمكّنه من تفهّم الكون وتعقله، وتعقل السنن الكامنة فيه، ومن تم القدرة على تسخيره إلى حين؛ وهذا التسخير ليس مشروطا من حيث فاعليته ومضاؤه بالقبلة التي يتم التوجه نحوها انطلاقا من موقع الإنسان قبل التسخير، وإنما يكون مرتبطاً ومشروطاً بقدرة الإنسان على تعقل هذه السنن والقوانين الكامنة في الكون، وتسخيرها،
وهو قوله تعالى
﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾
(الإسراء: 20)