وصف النار
فصَّل القرآن الكريم أحوال أهل الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وأحوال أهل النار وما فيها من عذاب أليم، ويبيِّن ما يجزي الله تعالى به عباده المتقين، وما يعاقب به الذين استحوذ عليهم الشيطان.
وقد ورد في القرآن الكريم أوصاف للجنة وللنار مردّدة في كثير من السور والآيات.
ولا يستطيع أحد أن يتطاول فيعيب هذا الترديد، فإنّه ضرب من البلاغة في أعلى صورها؛ لأنّ الوصف متنوّع من ناحية، ولأنّ مقام التبشير والإنذار يقتضي التكرير والتذكير والتحبيب والتخويف من ناحية ثانية، ولأنّ الإشادة بحقيقة جديدة مجهولة تستدعي التكرير لتوكيدها وتثبيتها وإقرارها في نفوس السامعين والقارئين من ناحية ثالثة.
فهل عجب أن جاء وصف الجنة ووصف النار في آيات شتى من القرآن الكريم؟!
وقد وردت في القرآن الكريم كلمات كثيرة للدلالة على النار، سواءٌ أكانت أسماء عدّة تدلّ عليها أو تدلّ على دركاتها وطبقاتها، مثل: جهنم، ولظى، والحطمة، وسقر، والسعير، والجحيم، والهاوية.
وقد تردّد ذكرها ووصفها في القرآن الكريم، وتردّد ذكر العذاب ووصفه، سواءٌ أكان ماديًّا أم معنويًّا.
1- الوصف المادي:
مِن وصفها المادي أنّ أهليها يساقون إليها سوقًا عنيفًا كما تُسَاق الماشية، ويُقال لهم إذا ما بلغوها زيادةً في النكال والاحتقار: هذه هي النار التي كذّبتم بها،
وقال تعالى:
﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾
[الطور: 13- 14].
وهم يُـجَـرُّون إليها على وجوههم عُميًا وبُكمًا وصُمًّا كما تُجَرّ الجِيَف والأحجار والأخشاب ليحترقوا بنار لا تخمد؛ لأنها كلّما خبَت زادها اللهُ شدة وسعيرًا
قال سبحانه:
﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾
[الإسراء: 97].
فإذا ما بلغوا النار جماعات جماعات سارع زبانيتها بزجّهم فيها، وجعلوا يبكِّتونهم ويقولون لهم: بئس مصيركم،
قال الله
﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ﴾
[الزمر: 71- 72].
وفي الحال التي يساقون فيها ويجرُّون جرًّا يسمعون من بعيد صوتَ تأجّج النار وزفيرها، فيزدادون يقينًا بأنهم هالكون هلاكًا ليس كمثله هلاك،
قال تعالى:
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا﴾
[الفرقان: 11- 14].
ولهم في أعناقهم سلاسل يُسحَبون بها كما تُسحب الدوابّ ويُقذَفون في جهنم قذفًا،
قال سبحانه:
﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾
[غافر: 70- 72].
ومن أصناف العذاب أنّ أهل النار يلبسون ثيابًا من النار نفسِها أو ثيابًا من النحاس لأنه أشد الأشياء حرارة إلى حمي، ويصبّ عليهم الماء الحار إلى درجة لو سقطت منه قطرة على جبل لأذابته، ولهذا يصبّ على رؤوسهم فيذيب أحشاءهم ويقطِّع أمعاءهم كما يذيب جلودهم، وكلما ضربتهم النار بلهبها فرفعتهم إلى أعلاها ضُربوا بسياط حديدية فسَقطوا في أسفلها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الغليظة المهلكة.
قال تعالى:
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾
[الحج: 19- 22].
وللنار وقود يمدّها، وإنه لَعَجَب أيّما عَجَب لأنه الناس والحجارة، وبهذا يختلف عن وقود النار التي عرفوها في الدنيا،
قال تعالى:
﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾
[البقرة: 24].
ويتطاير شررها كأنه -لضخامته- الحصونُ أو أصولُ الدَّوح أو الإبل السّود،
قال سبحانه:
﴿إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾
[المرسلات: 32- 34].
وهي تحرق الرؤوس والأطراف والجلود وما فوق العظام من لحم، ثم تبدل الجلود لتحرق مرات لا يعلمها إلا الله، وهنا حقيقة سبق بها القرآن الكريم، وذلك أنّ العِلم عَرَف أخيرًا أنّ الجلد هو موطن الإحساس والألم، وأنّ ما غار لا يحسّ ولا يتألم؛ ولهذا فإن أهل النار كلما احترقت جلودهم خلق اللهُ لهم جلودًا أخرى ليذوقوا العذاب الخالد،
قال -سبحانه وتعالى-:
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾
[النساء: 56].
والنار مقرّهم الدائم، ومآبهم المعدّ، يلبثون فيها أحقابًا كلما تقضَّى حقب تبعه حقب، ولا يذوقون شرابًا باردًا يخفف عنهم حرّ النار، بل يشربون الماء الحار البالغ نهاية الحرارة، ويشربون الصديد المتجمع من الحرقة، ق
قال تعالى:
﴿لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا﴾
[النبأ: 24- 26]
قال -سبحانه وتعالى-:
﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾
[الصافات: 62- 68].
2- الوصف المعنوي:
أمّا العذاب المعنوي فهو هائل في ندم المعذَّبين على ما فَرَط منهم في الدنيا، وحسراتهم على الثواب الذي حُرموه وحزنهم الشديد ممّا هُم فيه،
قال تعالى:
﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾
[النبأ: 40].
ويمثّل هذا العذابَ سوءُ المنظر وسوادُ الوجه واكتساؤه مع سواده بالتراب،
قال سبحانه:
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾
[عبس: 40- 42].
ويمثّله أيضًا خزيهم وذلّهم وتنكيس رؤوسهم،
قال -سبحانه وتعالى-:
﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾
[الشورى: 44- 45]،
وقال -عزّ وجَل-:
﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾
[السجدة: 12].
وليس أقسى ولا أشد ولا أصعب من حرمانه وحجبهم عن الله فلا يرونه ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم،
قال -سبحانه وتعالى-:
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
[آل عمران 174]،
ويقول جل جلاله
﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
[المطففين: 15]
فعذاب الحجاب عن رؤية الله؛ أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه الكريم؛ أعظم اللذات.