النداء الثاني و الاربعون : لا يضرُّ المؤمنين ضلال الكافرين إذا بذلوا الوسع في هدايتهم فأبوا
النداء الثاني و الاربعون : لا يضرُّ المؤمنين ضلال الكافرين إذا بذلوا الوسع في هدايتهم فأبوا
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة المائدة .
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المٌُؤْمِنينَ بِأنْ يُصْلِحُوا أنْفُسَهُمْ ، وَأنْ يَفْعَلُوا الخَيْرَ جَهْدَ طَاقَتِهِمْ ، لِيَتَقَرَّبُوا بِذَلِكَ إلى اللهِ . وَيُخْبِرُهُمْ تَعَالَى أنَّهُ مَنْ أصْلَحَ نَفْسَهُ وَأَمْرَهُ مِنْهُمْ ، فَلاَ يَضُرُّهُ فَسَادُ مَنْ فَسَدَ مِنَ النَّاسِ ، سَوَاءٌ أكَانَ قَرِيباً أوْ بَعِيداً ، " وَسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : بَلِ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ ، وَتَنَاهُوا عَنِ المُنْكَرِ ، حَتَّى إذا رَأَيْتُمْ شُحّاً مُطَاعاً ، وَهَوىً مَتَّبَعاً ، وَدُنْيا مُؤْثَرَةً ، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ بِرَأيِهِ ، فًَعَلَيكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ ، وَدَعْ عَنْكَ العَوَامَّ ، فَإنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أيَّاماً الصَّابِرُ فِيهِنَّ مِثْلُ القَابِضِ عَلَى الجَمْرِ ، لِلَعَامِلِ فِيهِنَّ أجْرُ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ كَعَمَلِكُمْ " ( رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ) .
فَالمُؤْمِنُ لاَ يَكُونُ مُهْتَدِياً إذَا أصْلَحَ نَفْسَهُ ، وَلَمْ يَهْتَمَّ بإِصْلاَحِ غَيْرِهِ ، بِأنْ يَأمُرَهُ بِالمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَاهُ عَنِ المُنْكَرِ ، فَهَذا فَرْضٌ لاَ هَوَادَةَ فِيهِ ، وَلَكِنَّ هذِهِ الفَرِيضَةُ تَسْقُطُ إذا فَسَدَ النَّاسُ فَسَاداً لاَ يُرْجَى مَعَهُ تَأثِيرُ الوَعْظِ وَالإِرْشَادِ .
إنه التميز والمفاصلة بينهم وبين من عداهم . ثم إنه التضامن والتواصي فيما بينهم بوصفهم أمة واحدة . (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) . .
أنتم وحدة منفصلون عمن سواكم , متضامنون متكافلون فيما بينكم . فعليكم أنفسكم . . عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها ; وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها ; ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم . فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم ; وأنتم أمة متضامنة فيما بينها بعضكم أولياء بعض , ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم .
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادى ء أساسية في طبيعة الأمة المسلمة , وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى .
إن الأمة المسلمة هي حزب الله . ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان . ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن , لأنه لا اشتراك في عقيدة ; ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة ; ولا اشتراك في تبعة أو جزاء .
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها ; وأن تتناصح وتتواصى , وأن تهتدي بهدي الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها . . ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن يضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى .
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى . والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها . فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة , وأن تحاول هدايتهم , وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم ; ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجتهم . .
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضرها من ضل إذا اهتدت , لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا , ثم في الأرض جميعا . وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته ; وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته . وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت , والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه . . والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا ; وعلى البشرية كلها أخيرا .
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديما - وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثا - أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إذا اهتدى هو بذاته - ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض - إذا هي اهتدت بذاتها - وضل الناس من حولها .
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر , ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان - وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته , وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم .
ولقد روى أصحاب السنن أن أبا بكر - رضي الله عنه - قام فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال:أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . . وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن الناس إذا رأوا المنكر , ولا يغيرونه , يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه " .
وهكذا صحح الخليفة الأول - رضوان الله عليه - ما ترامى إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة . ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح , لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق . فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهاد ومشاقه , ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه !
وكلا والله ! إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد . ولا يصلح إلا بعمل وكفاح . ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه , ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ولتقرير ألوهية الله في الأرض , ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان , ولإقامة شريعة الله في حياة الناس , وإقامة الناس عليها . . لا بد من جهد . بالحسنى حين يكون الضالون أفرادا ضالين , يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة . وبالقوة حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى ; وتعطل دين الله أن يوجد , وتعوق شريعة الله أن تقوم .
وبعد ذلك - لا قبله - تسقط التبعة عن الذين آمنوا , وينال الضالون جزاءهم من الله حين يرجع هؤلاء وهؤلاء إليه: (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون) .