أسلحة لا تصنعها الحضارات
سهام الليل لا تخطي.... ولكن لها أمد... وللأمد انقضاء....
وقد كان السلف الصالح يعدون الدعاء من الأسلحة التي لا غنى لهم عنها في حروبهم وغزواتهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «وكان الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء، (أي البراء بن مالك) أَقسِمْ على ربك!
فيقول: «يا رب أقسمت عليك لما منحتني أكتافهم؛ فيهزم العدو. فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وجعلتني أول شهيد؛ فمنحوا أكتافهم، وقُتِلَ البراء شهيداً» .
وكان سعد بن أبي وقاص مستجاب الدعوة، ما دعى قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق .
هذا النوع من السلاح الذي ينصر الله بسببه أهل الإيمان من المجاهدين في سبيله، وهو من أعظم الأسلحة، بل إن كل الأسلحة والأسباب المتقدمة مبنية على هذا النوع المبارك، فإن معية الله الخاصة لأوليائه، إنما تكون لأولئك، وكذلك نصرة الملائكة وغيرهم من جنود الله، إنما تقاتل؛ نُصرةً لعباد الله الصالحين.
والمقصود بالصالحين أي: من وحد الله التوحيد الخالص، ونظر إلى أوامر الله فاتبعها، ونظر إلى نواهيه فاجتنبها، وكان عمله خالصاً لوجه الله ـ سبحانه وتعالى ـ فلم يصر على فعلِ صغيرةٍ، فضلاً عن الكبيرة، ولم يصر على تركِ واجبٍ فضلاً عن الفرائض، وكان مكثراً من النوافل والمستحبات، مستخفياً بعمله قدر الإمكان، لا يطلب الأجر والثواب، ولا الإطراء والثناء إلا من الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
وهكذا كان دَأبُ الصالحين: فقد ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء عن أبي حاتم الرازي قال: «حدثنا عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا سريَّة مع ابن المبارك في بلاد الروم، فصادَفَنَا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو، فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه رجل، فطارده ساعة، وطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكُمّه، فأخذت بطرف كمه فمددته، فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يُشنّع علينا (يعني يفضحنا)» وهذا كثير جداً في أخبار الصالحين.
وقد كان القادة من أهل الإسلام يعتنون بهذا النوع من السلاح أيما عناية.
وحين أبطأ على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فتحُ مصر؛ كتب إلى عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: «أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر! تقاتلونهم منذ سنين، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله ـ سبحانه ـ لا ينصر قوماً إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، (وهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد ـ رضي الله عنهم ـ) فإذا أتاك كتابي هذا، فاخطب الناس، وحضهم على الصبر والنية، وقدَّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس أن يكون لهم صدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة؛ فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة وقت الإجابة، وليعج الناس إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وليسألوه النصر على عدوهم». فلما أتى عَمْراً الكتابُ، جمع الناس، وقرأ عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا، ويصلوا ركعتين، ـ ثم يرغبوا إلى الله ـ سبحانه ـ ويسألوه النصر... ففتح الله عليهم .
وهذا بالطبع لا يعني الاستغناء عن الأسلحة التي تصنعها الحضارة،
لقول الله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] .
صدق الله.