أصول الإيمان
وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي, ويغني عن كلام أهل الكلام, ومعقول أهل المعقول, فإنها تضمّنت تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوّة والإيمان بالملائكة, وانقسام الناس إلى هالك شقي, وفائز سعيد, وأوصاف هؤلاء وهؤلاء. وتضمّنت إثبات صفات الكمال لله, وتنزيهه عما يضاد كماله من النقائص والعيوب. وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى, والعالمين: الأكبر, وهو عالم الآخرة, والأصغر وهو عالم الدنيا. وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته, وحاله عند وفاته ويوم معاده وإحاطته سبحانه به من كل وجه, حتى علمه بوساوس نفسه, وإقامة الحفظة عليه, يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها, وأنه يوافيه يوم القيامة, ومعه سائق يسوقه إليه, وشاهد يشهد عليه, فإذا أحضره السائق قال: { هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ },ق 23. أي هذا الذي أمرت بإحضاره قد أحضرته, فيقال عند إحضاره:{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ }, ق24. كما يحضر الجاني إلى حضرة السلطان فيقال: هذا فلان قد أحضرته, فيقول: اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقّه.
وتأمّل كيف دلّت السورة صريحا على أن الله سبحانه وتعالى يعيد هذا الجسد بعينه الذي أطاع وعصى, فينعمه ويعذّبه, كما ينعم الروح التي آمنت بعينها, ويعذّب التي كفرت بعينها, لا أنه سبحانه يخلق روحا أخرى غير هذه فينعمها ويعذبها كما قاله من لم يعرف المعاد الذي أخبرت به الرسل, حيث زعم أن الله سبحانه يخلق بدنا غير هذا البدن من كل وجه, عليه يقع النعيم والعذاب, والروح عندهم عرض من أعراض البدن, فيخلق روحا غير هذه الروح, وبدنا غير هذا البدن وهذا غير ما اتفقت عليه الرسل ودلّ عليه القرآن والسنّة وسائر كتب الله تعالى وهذا في الحقيقة إنكار للمعاد وموافقة لقول من أنكره من المكذبين, فإنهم لم ينكروا قدرة الله على خلق أجسام أخر غير هذه الأجسام يعذبها وينعمها, كيف وهم يشهدون النوع الإنساني يخلق شيئا بعد شئ! فكل وقت يخلق الله سبحانه أرواحا وأجساما غير الأجسام التي فنيت, فكيف يتعجّبون من شئ يشاهدونه عيانا؟ وإنما تعجّبوا من عودهم بأعيانهم بعد أن مزّقهم البلى وصاروا عظاما ورفاتا, فتعجّبوا أن يكونوا هم بأعيانهم مبعوثين للجزاء, ولهذا قالوا :{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } الصافت16. وقالوا: { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } ق 3.ولو كان الجزاء إنما هو لأجسام غير هذه, لم يكن ذلك بعثا ولا رجعا, بل يكون ابتداء, ولم يكن لقوله:{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ }, ق4. كبير معنى. فإنه سبحانه جعل هذا جوابا لسؤال مقدّر, وهو: أنّه يميز تلك الأجزاء التي اختلطت بالأرض واستحالت إلى العناصر بحيث لا تتميّز, فأخبر سبحانه بأنه قد علم ما تنقصه الأرض من لحومهم وعظامهم وأشعارهم, وأنه كما هو عالم بتلك الأجزاء, فهو قادر على تحصيلها وجمعها بعد تفرّقها وتأليفها خلقا جديدا, وهو سبحانه يقرر المعاد بذكر كمال علمه, وكمال قدرته, وكمال حكمته,
فإن شبه المنكرين له كلها تعود إلى ثلاثة أنواع: (أحدها): اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميّز ولا يحصل معه تميز شخص عن شخص. (الثاني) : أن القدرة لا تتعلّق بذلك. (الثالث) : أن ذلك أمر لا فائدة فيه, أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شئ, هكذا أبدا, كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأمّا أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحييه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك.[3] براهين المعاد في القرآن مبنيّة على أصول ثلاثة فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول، (أحدها) تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال:{ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ }يس 78-79. وقال:{ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}الحجر 85-86. وقال:{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ }ق 4. (والثاني) تقرير كمال قدرته كقوله:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } يس81. وقوله:{ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } القيامة 4. وقوله:{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الحج6.ويجمع سبحانه بين الأمرين كما في قوله:{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ }يس81. الثالث: كمال حكمته كقوله:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} الدخان 38.
وقوله:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا }ص 27. وقوله:{ أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً } القيامة 36. وقوله:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَق }المؤمنون 115-116. وقوله:{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ }الجاثية 21.ولهذا كان الصواب أن المعاد معلوم بالعقل مع الشرع, وأن كمال الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته تقتضيه وتوجبه, وأنه منزّه عمّا يقوله منكروه كما ينزه كماله عن سائر العيوب والنواقص.ثم أخبر سبحانه أن المنكرين لذلك لمّا كذّبوا بالحق اختلط عليهم أمرهم { فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ } ق5. مختلط لا يحصلون منه على شئ.
ثم دعاهم إلى النظر في العالم العلوي وبنائه وارتفاعه واستوائه وحسنه والتئامه, ثم إلى العالم السفلي وهو الأرض, وكيف بسطها وهيّأها بالبسط لما يراد منها وثبّتها بالجبال وأودع فيها المنافع وأنبت فيها من كل صنف حسن من أصناف النبات على اختلاف أشكاله وألوانه ومقاديره ومنافعه وصفاته, وأن ذلك تبصرة إذا تأمّلها العبد المنيب وتبصّر بها تذكر ما دلت عليه مما أخبرت به الرسل من التوحيد والمعاد, فالناظر فيها يتبصّر أولا, ثم يتذكر ثانيا, وأن هذا لا يحصل إلا لعبد منيب إلى الله بقلبه وجوارحه.ثم دعاهم إلى التفكّر في مادة أرزاقهم وأقواتهم وملابسهم ومراكبهم وجناتهم وهو الماء الذي أنزله من السماء وبارك فيه, حتى أنبت به جنّات مختلفة الثمار والفواكه, ما بين أبيض وأسود وأحمر وأصفر وحلو وحامض, وبين ذلك مع اختلاف منافعها وتنوّع أجناسها, وأنبتت به الحبوب كلها على تنوعها واختلاف منافعها وصفاتها وأشكالها ومقاديرها. ثم أفرد النخل لما فيه من موضع العبرة والدلالة التي لا تخفى على المتأمل: { فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } البقرة164, ثم قال:{ كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } ق 11. أي مثل هذا الإخراج من الأرض الفواكه والثمار والأقوات والحبوب: خروجكم من الأرض بعد ما غيّبتم فيها.
وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم" وبيّنا بعض ما فيها من الأسرار والعبر.ثم انتقل سبحانه إلى تقرير النبوّة بأحسن تقرير, وأوجز لفظ, وأبعده عن كل شبهة وشك, فأخبر أنه أرسل إلى قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون رسلا فكذّبوهم, فأهلكهم بأنواع الهلاك, وصدق فيهم وعيده الذي أوعدتهم به رسله إن لم يؤمنوا, وهذا تقرير لنبوّتهم ولنبوة من أخبر بذلك عنهم, من غير أن يتعلّم من معلّم ولا قرأه في كتاب, بل أخبر به إخبارا مفصّلا مطابقا لما عند أهل الكتاب.ولا يرد على هذا إلا سؤال البهت والمكابرة على جحد الضروريات, بأنه لم يكن شئ من ذلك, أو أن حوادث الدهر ونكباته أصابتهم كما أصابت غيرهم, وصاحب هذا السؤال يعلم من نفسه أنه باهت مباهت جاحد لما شهد به العيان, وتناقلته القرون قرنا بعد قرن, فإنكاره بمنزلة إنكار وجود المشهورين من الملوك والعلماء والبلاد النائية.ثم عاد سبحانه إلى تقرير المعاد بقوله: { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ } ق15, يقال لكل من عجز عن شئ: عيي به فلان بهذا الأمر, قال الشاعر:
عيوا بأمرهم, كما عيت ببيضتها الحمامة
ومنه قوله تعالى:{ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ }الأحقاف33. قال ابن عبّاس : يريد أفعجزنا, وكذلك قال مقاتل. قلت: هذا تفسير بلازم اللفظة, وحقيقتها أعم من ذلك, فان العرب تقول: أعياني أن أعرف كذا وعييت به إذا لم تهتد لوجهه ولم تقدر على معرفته وتحصيله فتقول: أعياني دواؤك إذا لم تهتد له, ولم تقف عليه. ولازم هذا المعنى العجز عنه. والبيت الذي استشهدوا به شاهد لهذا المعنى, فان الحمامة لم تعجز عن بيضتها, ولكن أعياها إذا أرادت أن تبيض أين ترمي بالبيضة, فهي تدور وتجول حتى ترمي بها, فإذا باضت أعياها أين تحفظها وتودعها حتى لا تنال, فهي تنقلها من مكان إلى مكان وتحار أين تجعل مقرّها, كما هو حال من عى بأمره فلم يدر من أين يقصد له ومن أين يأتيه, وليس المراد بالإعياء في هذه الآية التعب, كما يظنّه من لم يعرف تفسير القرآن, بل هذا المعنى هو الذي نفاه سبحانه عن نفسه في آخر السورة بقوله: { وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ } ق38.ثم أخبر سبحانه أنّهم:{ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ق15. أي أنهم التبس عليهم إعادة الخلق خلقا جديدا, ثم نبههم على ما هو من أعظم آيات قدرته وشواهد ربوبيّته وأدلّة المعاد وهو خلق الإنسان, فإنه من أعظم الأدلة على التوحيد والمعاد.وأي دليل أوضح من تركيب هذه الصورة الآدميّة بأعضائها وقواها وصفاتها, وما فيها من اللحم والعظم والعروق والأعصاب والرباطات والمنافذ والآلات والعلوم والإرادات والصناعات, كل ذلك من نطفة ماء.فلو أنصف العبد لاكتفى بفكره في نفسه, واستدل بوجوده على جميع ما أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته.
ثم أخبر سبحانه عن إحاطة علمه به, حتى علم وساوس نفسه, ثم أخبر عن قربه إليه بالعلم والإحاطة وأن ذلك أدنى إليه من العرق الذي داخل بدنه, فهو أقرب إليه بالقدرة عليه والعلم به من ذلك العرق.وقال شيخنا: المراد بقول "نحن", أي ملائكتنا, كما قال: { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ }القيامة18. أي إذا قرأه عليك رسولنا جبريل. قال: ويدل عليه قوله: { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } ق17. فقيد القرب المذكور بتلقّي الملكين, ولو كان المراد به قرب الذات لم يتقيد بوقت تلقي الملكين فلا حجة في الآية لحلولي ولا معطّل.ثم أخبر سبحانه أن على يمينه و شماله ملكين يكتبان أعماله وأقواله, ونبه بإحصاء الأقوال وكتابتها على كتابة الأعمال, التي هي أقل وقوعا, وأعظم أثرا من الأقوال, وهي غايات الأقوال ونهايتها. ثم أخبر عن القيامة الصغرى, وهي سكرة الموت, وأنها تجيء بالحق, وهو لقاؤه سبحانه وتعالى, والقدوم عليه, وعرض الروح عليه, والثواب والعقاب الذي تعجل لها قبل القيامة الكبرى.ثم ذكر القيامة الكبرى بقول: { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيد } ق20. ثم أخبر عن أحوال الخلق في هذا اليوم, وأن كل أحد يأتي الله سبحانه وتعالى ذلك اليوم ومعه سائق يسوقه, وشهيد يشهد عليه, وهذا غير شهادة جوارحه, وغير شهادة الأرض التي كان عليها له وعليه, وغير شهادة رسوله والمؤمنين.فإن الله سبحانه وتعالى يستشهد على العبد الحفظة والأنبياء والأمكنة التي عملوا عليها الخير والشر, والجلود التي عصوه بها, ولا يحكم بينهم بمجرّد علمه, وهو أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولهذا أخبر نبيه أنه يحكم بين الناس بما سمعه من إقرارهم, وشهادة البيّنة, لا بمجرّد علمه فكيف يسوغ لحاكم أن يحكم بمجرد علمه من غير بيّنة ولا إقرار؟ ثم أخبر سبحانه أن الإنسان في غفلة من هذا الشأن الذي هو حقيق بأن لا يغفل عنه, وأن لا يزال على ذكره وباله, وقال:{ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا }ق22, ولم يقل عنه, كما قال:{ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ }هود110، ولم يقل في شك فيه, وجاء هذا في المصدر وإن لم يجئ في الفعل فلا يقال غفلت منه ولا شككت منه كأن غفلته وشكه ابتداء منه, فهو مبدأ غفلته وشكّه, وهذا أبلغ من أن يقال في غفلة عنه وشك فيه, فإنه جعل ما ينبغي أن يكون مبدأ التذكرة واليقين ومنشأهما مبدأ للغفلة والشك. ثم أخبر أن غطاء الغفلة والذهول يكشف عنه ذلك اليوم كما يكشف غطاء النوم عن القلب فيستيقظ, وعن العين فتنفتح. فنسبة كشف هذا الغطاء عن العبد عند المعاينة كنسبة كشف غطاء النوم عنه عند الانتباه.ثم أخبر سبحانه أن قرينه, وهو الذي قرن به في الدنيا من الملائكة, يكتب عمله. وقوله يقول لمّا يحضره: هذا الذي كنت وكّلتني به في الدنيا قد أحضرته وأتيتك به, هذا قول مجاهد.وقال ابن قتيبة: المعنى: هذا ما كتبته عليه وأحصيته من قوله وعمله حاضر عندي. والتحقيق أن الآية تتضمّن الأمرين, أي هذا الشخص الذي وكلت به وهذا عمله الذي أحصيت عليه. فحينئذ يقال:{ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ }ق24, وهذا إما أن يكون خطابا للسائق والشهيد, أو خطابا للملك الموكل بعذابه وإن كان واحدا. وهو مذهب معروف من مذاهب العرب في خطابها, أو تكون الألف منقلبة عن نون التأكيد الخفيفة, ثم أجري الوصل مجرى الوقف.ثم ذكر صفات هذا الملقى فذكر له ست صفات: (أحدها) أنه كفار لنعم الله وحقوقه, كفار بدينه وتوحيده وأسمائه وصفاته, كفّار برسله وملائكته, كفار بكتبه ولقائه.
(الثانية) أنه معاند للحق يدفعه جحدا وعنادا.
(الثالثة) أنه مناع للخير, وهذا يعم منعه للخير الذي هو إحسان إلى نفسه من الطاعات والقرب إلى الله والخير الذي هو إحسان إلى الناس, فليس فيه خير لنفسه, ولا لبني جنسه كما هو حال أكثر الخلق.
(الرابعة) أنه مع منعه للخير معتد على الناس, ظلوم غشوم معتد عليهم بيده ولسانه.
(الخامسة) أنه مريب, أي صاحب ريب وشك, ومع هذا فهو آت لكل ريبة, يقال: فلان مريب, إذا كان صاحب ريبة.
(السادسة) أنه مع ذلك مشرك بالله, قد اتّخذ مع الله إلها آخر يعبده, ويحبه, ويغضب له, ويرضى له, ويحلف باسمه, وينذر له, ويوالي فيه, ويعادي فيه, فيختصم هو وقرينه من الشيطان, ويحيل الأمر عليه, وأنه هو الذي أطغاه وأضله. فيقول قرينه: لم يكن لي قوّة أن أضلّه وأطغيه, ولكن كان في ضلال بعيد, اختاره لنفسه, وآثره على الحق, كما قال إبليس لأهل النار: { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } إبراهيم 22.وعلى هذا, فالقرين هنا هو شيطانه, يختصمان عند الله. وقالت طائفة: بل قرينه ها هنا هو الملك, فيدعي عليه أنه زاد عليه فيما كتبه عليه وطغى, وأنه لم يفعل ذلك كله, وأنه أعجله بالكتابة عن التوبة, ولم يمهله حتى يتوب, فيقول الملك: ما زدت في الكتابة على ما عمل ولا أعجلته عن التوبة: { وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } ق27. فيقول الرب تعالى:{ لا تَخْتَصِمُوا لَدَي }ق28. وقد أخبر سبحانه عن اختصام الكفار والشياطين بين يديه في سورتي [الصافّات] 27-38, و [الأعراف]37-39.وأخبر عن اختصام الناس بين يديه في سورة [الزمر]56-60. وأخبر عن اختصام أهل النار فيها في سورة [الشعراء] 96-104, وسورة [ص] 59-65.
ثم أخبر سبحانه أنه لا يبدّل القول لديه, فقيل: المراد بذلك قوله:{ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }هود119. ووعده لأهل الإيمان بالجنة, وأن هذا لا يبدل ولا يخلف. قال ابن عبّاس: يريد ما لوعدي خلف لأهل طاعتي ولا أهل معصيتي. قال مجاهد: قد قضيت ما أنا قاض. وهذا أصح القولين في الآية.وفيها قول آخر: أن المعنى ما يغيّر القول عندي بالكذب والتلبيس كما يغيّر عند الملوك والحكّام. فيكون المراد بالقول قول المختصمين, وهو اختيار الفراء وابن قتيبة, قال الفراء: المعنى ما يكذب عندي لعلمي بالغيب. وقال ابن قتيبة: أي ما يحرف القول عندي ولا يزاد فيه ولا ينقص منه. قال: لأنه قال القول عندي, ولم يقل قولي, وهذا كما قال لا يكذب عندي. فعلى القول الأوّل يكون قوله:{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } ق29, من تمام قوله: { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ } ق29. في المعنى, أي ما قلته ووعدت به لا بد من فعله. ومع هذا فهو عدل لا ظلم فيه ولا جور. وعلى الثاني يكون قد وصف نفسه بأمرين.أحدهما: أن كمال علمه واطلاعه يمنع من تبديل القول بين يديه وترويج الباطل عليه. وكمال عدله وغناه يمنع من ظلمه لعبيده.ثم أخبر عن سعة جهنّم وأنها كلّما ألقى فيها : { وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }ق30. وأخطأ من قال أن ذلك للنفي, أي ليس من مزيد, والحديث الصحيح يردّ هذا التأويل. الحديث: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم: "يلقى في النار وتقول هل من مزيد, حتى يضع قدمه فتقول:قط قط" البخاري 8\460 رقم 4848,4849 وكذلك في صحيح مسلم. وعن أبي هريرة يرفعه," يقال لجهنّم هل امتلأت؟ وتقول هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط".ثم أخبر عن تقريب الجنة من المتقين, وأن أهلها هم الذين اتصفوا بهذه الصفات الأربع: (إحداها) أن يكون أوابا, أي رجّاعا إلى الله من معصيته إلى طاعته, ومن الغفلة عنه إلى ذكره.قال عبيد بن عمير: الأوّاب الذي يتذكر ذنوبه ثم يستغفر منها.وقال مجاهد: هو الذي إذا ذكر ذنبه في الخفاء استغفر منه. وقال سعيد بن المسيّب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. (الثانية) : أن يكون حفيظا قال ابن عبّاس لما ائتمنه الله عليه وافترضه. وقال قتادة: حافظ لما استودعه الله من حقّه ونعمته.
ولما كانت النفس لها قوّتان: قوة الطلب وقوة الإمساك, كان الأواب مستعملا لقوة الطلب في رجوعه إلى الله ومرضاته وطاعته. والحفيظ مستعملا لقوة الحفظ في الإمساك عن معاصيه ونواهيه.فالحفيظ الممسك نفسه عما حرّم عليه, والأوّاب المقبل على الله بطاعته.(الثالثة)قوله:{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْب } ق33, يتضمن الإقرار بوجوده وربوبيته وقدرته وعلمه واطلاعه على تفاصيل أحوال العبد. ويتضمن الإقرار بكتبه ورسله وأمره ونهيه. ويتضمن الإقرار بوعده ووعيده ولقائه, فلا تصح خشية الرحمن بالغيب إلا بعد هذا كله.
الرابعة: قوله { وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ }ق33. قال ابن عباس: راجع عن معاصي الله, مقبل على طاعة الله. وحقيقة الإنابة عكوف القلب على طاعة الله ومحبته والإقبال عليه. ثم ذكر سبحانه جزاء من قامت به هذه الأوصاف بقوله:{ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُود ِلَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ }ق 34و35.ثم خوّفهم بأن يصيبهم من الهلاك ما أصاب من قبلهم وأنهم كانوا أشد منهم بطشا ولم يدفع عنهم الهلاك شدّة بطشهم, وأنهم عند الهلاك تقلّبوا وطافوا في البلاد, وهل يجدون محيصا ومنجى من عذاب الله؟. قال قتادة: حاص أعداء الله فوجدوا أمر الله لهم مدركا. وقال الزجاج: طوّفوا وفتشوا فلم يروا محيصا من الموت. وحقيقة ذلك أنهم طلبوا المهرب من الموت فلم يجدوه.ثم أخبر سبحانه أن في هذا الذي ذكر:{ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }ق37.ثم أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ولم يمسه تعب ولا إعياء تكذيب لأعدائه من اليهود, حيث قالوا أنه استراح في اليوم السابع.ثم أمر نبيه بالتأسي به سبحانه وتعالى في الصبر على ما يقول أعداؤه فيه, كما أنه سبحانه صبر على قول اليهود أنه استراح: "ولا أحد أصبر على أذى يسمعه منه".ثم أمره بما يستعين به على الصبر وهو التسبيح بحمد ربه قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وبالليل وأدبار السجود. فقيل هو الوتر. وقيل: الركعتان بعد المغرب. والأول قول ابن عباس, والثاني قول عمر وعلي وأبي هريرة والحسن بن علي وإحدى الروايتين عن ابن عباس. وعن ابن عباس رواية ثالثة أنه التسبيح باللسان أدبار الصلوات المكتوبات.ثم ختم السورة بذكر المعاد, ونداء المنادي برجوع الأرواح إلى أجسادها للحشر. وأخبر أن هذا النداء من مكان قريب يسمعه كل أحد:{ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَق } بالبعث ولقاء الله:{ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ } كما تشقق عن النبات, فيخرجون: سراعا من غير مهلة ولا بطء: ذلك حشر يسير عليه سبحانه.ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه عالم بما يقول أعداؤه, وذلك يتضمّن مجازاته لهم بقولهم إذا لم يخف عليه, وهو سبحانه يذكر علمه وقدرته لتحقيق الجزاء.ثم أخبره أنه ليس بمسلط عليهم ولا قهّار ولم يبعث ليجبرهم على الإسلام ويكرههم عليه, وأمره أن يذكر بكلامه من يخاف وعيده فهو الذي ينتفع بالتذكير, وأما من لا يؤمن بلقائه ولا يخاف وعيده ولا يرجو ثوابه, فلا ينتفع بالتذكير.