الْمَعْلَمُ الرَّابع: التَّنْظِيمُ الفِطْرِيُّ
وأحسب أن هذا المَعْلَمَ هو من ألطف حِكَم البعثة المحمدية. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منظما في عمله كله. لا ارتجال فيه ولا فوضى، ولا اضطراب ولا عبث. بل كل خطوة من خطواته - صلى الله عليه وسلم - كانت بحسابها. إذ
(كَانَ خُلُقُهُ القرآنَ)
([1]).
والقرآن نظام بديع. بل هو أبدع نظام؛ مبنىً ومعنىً، عقيدةً وشريعةً، لغةً وجمالاً! وهو الذي فيه قول الله تعالى:
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ!)
(لقمان:19)
. كما أن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظام كلها، وحكمة جميعها. ومن هنا كان إنكار تنظيم الدعوة إلى الله، والعمل الإسلامي التجديدي؛ غباءً وجهلا بالدين، وانحرافا عن سنن الله في الكون وفي المجتمع، وهي المبثوثة في الكتاب والسنة. أو ربما كان موقفا سياسيا مريبا؛ للتشويش على العمل الإسلامي، وإرباك عمله الدعوي، ليس إلا!
لكنَّ التنظيم ذا الطبيعة الميكانيكية، كما اعتمدته أغلب الحركات الإسلامية المعاصرة؛ صار إلى ما ذكرناه من الحزبية الضيقة! إذ آل أمره إلى محاصرة الدعوة الإسلامية حصارا ذاتيا، فصار كثير من الإسلاميين بذلك يعيشون في منفى اختياري، بين شعوبهم ومجتمعاتهم! بسبب الغلو في بناء التنظيمات، والمبالغة في تسوير الجماعات، على طريقة المنظمات الغربية. كيف الحل إذن؟ إنه الوسط. الوسط دائما حل لكل انحراف سبَّبه الغلو. ولذلك جعلنا تسمية هذا المعلم بـ"التنظيم الفطري"؛ تحرزا عن "التنظيم الحزبي" أو "الميكانيكي"، الذي أهلك الدعوة وحاصر الدعاة، وأجبرهم على الإقامة داخل أفكارهم وهياكلهم! بصورة آلت في نهاية المطاف إلى ما سميناه بـ"الاستصنام المنهجي" لتلك الأجسام!([2])
إن "التنظيم الفطري" هو النسق الديني الجميل الذي ينظم العبادات، والمعاملات، وسائر بنى المجتمع في الإسلام، كما يتجلى ذلك مثلا في صلاة الجمعة والجماعة. وهو الذي طبع مدارج الدعوة الإسلامية في السيرة النبوية خلال صيرورتها، وعبر كل مراحلها. فالتنظيم الفطري عمل ديني محضٌ، غايةً ووسيلةً. إذ هو قائم أساسا على تجديد الدين في ذاته ولذاته. إنه إذن تنظيم الإسلام - من حيث هو دِينٌ - للإنسان فرداً وجماعةً. ولذلك فهو يندمج بصورة تلقائيةٍ سَلْسَةٍ في نظام الصلوات، وفي نظام الجُمَعِ الجماعات، وفي عُمْرَانِ المساجدِ ومجالسِ القرآن. إنه التنظيم الذي يؤطر سائر العبادات في الإسلام أصولِها وفروعِها. ثم يسري بعد ذلك في خلية الأسرة بناءً وتجديداً، ليمتد إلى تجديد نظام النسيج الاجتماعي بأكمله؛ بإعادة إنتاج نُظُمِهِ المختصة ببناء العلاقات الاجتماعية العامة، على موازين الدين. فَهَيْكَلَتُهُ هي هيكلةُ الشريعة نفسها، وإدارته هي نسيج العلماء والدعاة الحكماء، وسائر الفاعلين والمتفاعلين مع نُظُمِ الإسلام ديناً ودعوةً. كُلٌّ يَحُلُّ بالمحل الذي أحلته فيه أحكام الشريعة بصورة تلقائية طبيعية، تماماً كما يتخذ المصلي - في الجمعة أو في الجماعة - مكانَه من الصف، أو من المجلس بصورة طبيعية، ليجد نفسه في المحل الذي وجب أن يحل فيه!
ومن هنا فارق التنظيمُ الفطريُّ التنظيمَ الحركيَّ الميكانيكيَّ. فالفطريُّ دينٌ بذاته، ولذلك لم تكن الدعوة إليه وبه إلا عبادةً لله رب العالمين. وأما الميكانيكي فالدعوة به مغامرة! إذْ كثيراً ما تَنْجَرُّ بصورة تلقائية إلى الدعوة إليه! وهو ليس بدينٍ في ذاته، بل هو عمل بشري محض! فتحصل المفارقة العجيبة، حيث يَنْقُضُ الفرعُ أصلَه! وتخون الوسيلةُ غايتَها! بما يرسخه التنظيم الميكانيكي من وثنية خفية في أهله وأنصاره! فيصير حجابا مانعا من رؤية مقاصد التعبد في العمل الحركي؛ ومن ثم يكون الانحراف!
وعليه؛ فالقيادة الشرعية للعمل الإسلامي – على خلاف السياسية المحضة - يفرزها علمُها وورعُها، وتصنعها تجربتُها، فتنتصب للناس هنا وهناك بلا حرص، وتؤم المجتمع بصورة طبيعية تلقائية، بلا تحيل، ولا تشنج، ولا قتال! لا تفرض نفسها فرضا، ولا تسعى إلى ذلك قصدا، وإنما الناس هم الذين يطلبونها؛ لما فاض عنها من العلم والهدى، ولما انبعث عنها من أخلاق النبوة، وكذا لما تحقق فيها من برهان "الإرث النبوي"، (فالعلماء ورثة الأنبياء) كما سبق بيانه بأدلته ومقاصده.
هل وصل أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى إمامة الناس بانتخابات حرة أو مقيدة؟ وقبْلَهم قياداتُ التابعين، ثم قبلهم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفاؤه الراشدون؛ ألم يكن الوجدان الإسلامي مجمعا عليهم قبل توليهم، وبعد توليهم؟ ألم يكونوا أئمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليسوا هم أهل شوراه - صلى الله عليه وسلم - وأهل الحل والعقد عنده؟
إن أئمة بعثة التجديد لا تصنعها الانتخابات الراجعة إلى أصوات العوام! ولا الديمقراطيات التي قد تُغَلِّب الغثَّ على السمين، وتنصر الباطل على الحق؛ بمجرد كثرة الغث، وغلبة أهل الباطل عددا. وذلك لعمري هو غاية الفساد! وإنما الحَكَمُ في إمامة "بعثة التجديد"، أو "دعوة الإسلام" هو قاعدةُ المحدثين المشهورة: (إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم!)([3])
ركنان عظيمان في الشخصية الإسلامية القيادية، لا يجوز تخلفهما فيمن انتصب لإمامة التجديد: "القوة والأمانة". فهما أساس الولايات الشرعية في الدين.
قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين)
(القصص:26)
. وهو ما صار مرجع المحدِّثين في تقويم الشخصية الإسلامية بخاصيتي "الضبط والعدالة".
ذلك إجماع السابقين، في التأمير والتقويم، ولا خير في بدع اللاحقين!
وعليه، فالتنظيم الفطري عمل دعوي يجمع بين التلقائية وبين التوجيه، كما يجمع بين البساطة وبين العمق. وهو عمل تعبدي بذاته، ومسلك إيماني بطبيعته. ولذلك فهو يقوم على ركنين أساسين، الأول منهما: بشري، وهم حُمَّالُ الدعوة من الفاعلين فيها والمتفاعلين معها. والثاني معنوي، وهو الإطار الروحي التداولي للرسالات الدعوية. وبيان ذلك هو كما يلي:
- الركن الأول: مجموع الأئمة المنتصبين للبعثة، باصطلاح الشاطبي الآنف الذكر. كل منهم محور للعاملين والمتعلمين، يقومون فيهم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، كما حدده القرآن، بلا ابتداع ولا تضليل، ولا ترسيخ لوساطات الأشياخ والأقطاب والأبدال. وإنما هم الربانيون وُرَّاثُ النبوة، كما سبق وصفهم بأدلته، تتحدد علاقاتهم جميعا في ذلك – علماء ومتعلمين - بقول الله تعالى:
(لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)
(آل عمران:164).
فـ"التعليم والتزكية" هما مناط "القوة والأمانة"، اللذين يقوم عليهما بناء الأمة الإسلامية في بعثة التجديد، تماما كما قام في البعثة الأولى. ولمفهومي "التعليم والتزكية" تفصيل، بيناه في غير هذا المكان، فلا حاجة للتكرار([4]). فالعلماء الربانيون، أو الوُرَّاثُ المنتصبون، هم الركن الأول لكل بعثة حقيقية، بوجودهم وبانتصابهم ينتصب الدين ويقوم، وبغيابهم تنتصب المحن والفتن!
وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما؛ اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا!)
([5])
وترجم الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه: (باب: كيف يقبض العلم؟ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاكتبه، فإني خفت دُروسَ العلم(6) وذهابَ العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولتُفْشُوا العلمَ، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا!)
وإن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم فعلا من المعضلات، في هذه المرحلة الحرجة من الاكتساح العولمي الصهيوني؛ هو هذا الموت المتواتر، والمستحر بالعلماء، مع ضعف نتاج الخلف! فهذا مما يجب الانتباه إلى خطورته الشديدة، وإلى الضرورة الاستعجالية التي تقضي بتفرغ شباب الصحوة الإسلامية لطلب العلم الشرعي، بشروطه المذكورة قبل؛ قصد إنتاج علماء البعثة المنتصبين لها.
- الركن الثاني: دوائر "مجالس القرآن" لتلقي رسالات القرآن وتلقينها، تلاوةً وتزكيةً وتعلماً وتعليماً؛ قصد إحداث تداول اجتماعي عام لمفاهيمها؛ بناء على هندسة القرآن الدعوية. كما سبق بيانه في المَعْلَم الأول من معالم البعثة؛ وذلك لتجديد بنية الدين في المجتمع([7]).
فمجالس القرآن حِلَقٌ تعبدية متسلسلة، ومدارس إيمانية متناسلة. هي الشكل وهي المضمون، كما أنها هي الوسيلة وهي الغاية، وهي مناط رسالات القرآن تلقيا وأدَاءً.
فهما إذن عنصران أو ركنان كما ذكرنا: الأئمة العلماء بشروط البعثة ومعالمها، ثم المجالس القرآنية، المنضبطة إلى هندسة القرآن. وذلك يغني عن كثير من المحركات الإدارية، التي لا تفيد إلا في إثقال حركة الانتاج الدعوي، وتقييد المبادرات. كما هو علم الميكانيك والنظام الحزبي الذي يمنع كل حركة لم تنتج عن حركته! ومثل هذا لا ينتج بعثة، ولا تجديدا. وإنما قد يحفظ للأمة بعض المصالح إلى حين. كما قد يجر عليها من المفاسد ما يفوق تلك المصالح في بعض الظروف! أما أفكار البعثة التي تنظم العمل الدعوي بشكل تلقائي؛ فإنما هي منهج الاشتغال بالقرآن تداولا كما بيناه.
المراجع
- رواه مسلم.
- الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب.
- هذه القاعدة في علم الجرح والتعديل، رويت عن غير واحد منهم. فقد أخرجها مسلم بسنده عن محمد بن سيرين، بمقدمة صحيحه: (باب بيان أن الإسناد من الدين). كما أخرجها ابن عبد البر عن مالك رحمه الله. التمهيد: 1/47.
- ن. بلاغ الرسالة القرآنية: 101- 105
- متفق عليه.
- دروس العلم: يعني انقراضه، دَرَسَ الشيءُ يَدْرُسُ: انقرض.
- بينا بعض الضوابط التنظيمية الفطرية بكتيبنا "مجالس القرآن" لمن شاء الاستزادة.