التوكل - الجزء الثاني
وأما الجمع بين التقوى والتوكل، ففى مثل قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِى اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِع الْكَافِرِينَ وَالمُنَافِقِين} إلى قوله تعالى: {وَتوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً} [الأحزاب: 1- 3]، وقوله: {وَمَن يَتَقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2- 3].
وأما الجمع بين التوكل والهداية ففى مثل قول الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] لقومهم : {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12]، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79]، فأمر [رسوله] بالتوكل عليه، وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل مصحح له مستدع لثبوته وتحققه، وهو قوله تعالى: "إنَّك على الحقِّ المبين فإن كون العبد على الحق يقتضى تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواءَ إلى ركنه الشديد، فإن الله هو الحق، وهو ولى الحق وناصره ومؤيده، وكافى من قام به،" [مخلصاً للحق] أن لا يتوكل عليه؟ وكيف يخاف وهو على الحق؟ كما قالت الرسل لقومهم: {وَمَا لَنَآ أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم: 12]، فعجبوا من تركهم التوكل على الله [وهو] هداهم، [وأقروا] أن ذلك لا يكون أبداً.
وهذا دليل على أن الهداية والتوكل متلازمان: فصادف الحق- لعلمه بالحق [وليقينه] بأن الله ولى الحق وناصره- مضطر إلى توكله على الله لا يجد بداً من توكله. فإن التوكل يجمع أصلين: علم القلب وعمله. أما علمه: فيقينه بكفاية وكيله، وكمال قيامه بما وكله إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه فى ذلك. وأما عمله: فسكونه إلى وكيله، وطمأٌنينته إليه، وتفويضه وتسليمه أَمره إليه، وأن غيره لا يقوم مقامه فى ذلك. ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه. فبهذين الأصلين يتحقق التوكل، وهما جُماعه، وإن كان التوكل دخل فى عمل القلب من عمله، كما قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب، ولكن لا بد فيه من العلم، وهو إما شرط فيه، وإما جزءٌ من ماهيته.
والمقصود أن القلب متى كان على الحق كان أعظم لطمأنينته ووثوقه بأن الله وليه وناصره وسكونه إليه، فما له أن لا يتوكل على ربه؟ وإذا كان على الباطل علماً وعملاً أو أحدهما لم يكن مطمئناً واثقاً بربه فإنه لا ضمان له عليه، ولا عهد له عنده، فإن الله [سبحانه] لا يتولى الباطل ولا ينصره، ولا ينسب إليه بوجه، فهو منقطع النسب إليه بالكلية، فإنه سبحانه هو [الحق]، وقوله الحق، ودينه الحق ووعده حق، ولقاؤه حق، وفعله [كله] حق.
ليس فى أفعاله شيء باطل، بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل، كما أقواله [سبحانه] كذلك، فلما كان الباطل لا يتعلق به [سبحانه]، بل هو مقطوع [عليه] البتة كان صاحبه كذلك. ومن لم يكن له تعلق بالله العظيم، وكان منقطعاً عن ربه لم يكن الله وليه ولا ناصره ولا وكيله.
فتدبر هذا السر العظيم فى اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى وارتباط أحدهما بالآخر، لو لم يكن فى هذه الرسالة إلا هذه الفائدة السرية لكانت حقيقة أن تودع فى خزانة القلب، لشدة الحاجة إليها. والله المستعان وعليه التكلان
فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأْس، فكما لا يقوم الرأْس إلا على البدن، فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل. والله أعلم.
الوجه الثانى: أن قوله فى التوكل: "إنه فى طريق الخواص عمى عن الكفاية، ورجوع إلى الأسباب.. إلى آخر كلامه" مضمونه أن التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب، والإعراض عنها جملة. والتوكل من أقوى الأسباب وأعظمها فى حصول المطلوب فكأَنه قد رفض سبباً وتعلق بسبب، وقد ناقض فى أمره، ولهذا قال: "فصار بدلاً عن تلك الأسباب"، وكأَنك تعلقت بما رفضته فهذه هى النكتة التى لأجلها صار التوكل عنده من منازل العوام، وهذه هى غير مسألة الجمع بين التوكل والسبب، بل هذه مسألة تعليل نفس التوكل. فيقال: قولك: "إنه عمى عن الكفاية" ليس كذلك، بل هو نظر إلى نفس الكفاية وملاحظة لها.
ولا ريب أن الكفاية من الله لا تنال إلا بأسبابها من عبوديته، وسببها المقتضى لها هو التوكل، كما قال الله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، أى كافية، فجعل التوكل سبباً للكفاية فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها، فكيف يقال: "إن التوكل عمى عن الكفاية"؟ وهل التوكل إلا محض العبودية التى جزاؤها الكفاية، وهى لا تحصل بدونه؟ بل العلة ههنا شهود حصولها بفعلك وتوكلك، غير ناظر إلى مسبب الأسباب الذى أجرى عليك هذا السبب ليوصلك به إلى الكفاية، فأول الأمر وآخره منه، فهو المنعم بالسبب والمسبب جميعاً، ولكن لا يوجب نظر العبد إلى المسبب المنعم بالسبب قطع نظره عن السبب والقيام به، بل الواجب القيام بالأمرين معاً.
الوجه الثالث: أن قوله: "إنه رجوع إلى الأسباب" إن أراد به أنه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويضعف التوكل فليس كذلك، وظاهر أن الأمر ليس كذلك، وإن أراد به أنه رجوع إلى سبب نصبه الله مقتضياً للكفاية منه، ورتب عليه جزاءً لا يحصل بدونه فهذا حق، ولكن القيام بهذا السبب محض الكمال، ونفس العبودية. وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسباباً مقتضية للفلاح والسعادة، بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسباباً مقتضية لما رتب عليها من الجزاءِ، وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب؟ فالأسباب التى تكون مباشرتها نقصاً هى الأسباب التى تضعف التوكل، وأَما أَن يكون التوكل نفسه ناقصاً لكون التحقق به تحققاً بالسبب فقلب للحقائق،
الوجه الرابع: أن قوله: "لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل" إن أراد به رفض الأسباب جملة، فهذا كما أنه ممتنع عقلاً وحساً فهو محرَّم شرعاً وديناً، فإن رفض الأسباب بالكلية انسلاخ من العقل والدين، وإن أراد به رفض الوقوف معها والوثوق بها، وأنه يقوم [بها] قيام ناظر إلى سببها، فهذا حق ولكن النقص لا يكون فى السبب ولا فى القيام به، وإنما يكون فى الإعراض عن المسبب تعالى كما تقدم، فمنع الأسباب أن تكون أَسباباً قدح فى العقل والشرع، وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح فى التوحيد والتوكل، والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد، وبين الشرع والقدر، وهو الكمال، والله أعلم.
الوجه الخامس: قوله: "فصار التوكل بدلاً عن تلك الأسباب" هذا حق، فإن التوكل من أعظم الأسباب، ولكنه بدل عنها، كما تكون الطاعة بدلاً عن المعصية، والتوحيد بدلاً عن الشرك، فهو بدل واجب مأْمور به مطلوب من العبد والمذموم أن يجعل العبد الأَسباب بدلاً عن التوكل، لا أن يجعل التوكل بدلاً عن الأسباب.
الوجه السادس: قوله: "فكأنك تعلقت بما رفضته من حيث معتقدك الانفصال" ليس كذلك، فإن المرفوض هو التعلق بغير الله والالتفات إلى سواه، فهذا هو الذى رفضه، وأما الذى تعلق به فهو التوكل على الله واللجأْ إِليه والتفويض إِليه والاستعانة به. فقد رفض المخلوق وتعلق بالخالق، فكيف يقال: إنه تعلق بما رفضه؟
الوجه السابع: أن قوله: "من حيث معتقدك الانفصال" يشير به إِلى أَن التوكل نوع تفرقة وانفصال يشهد فيه مع الله غيره، وهذا مناف للفناءِ فى التوحيد، وأن لا يشهد مع الله غيره أصلاً، وهذا قطب رحى السير الذى يشير إليه القوم، والعلم الذى يشمرون إليه، ولأجله يجعلون كل ما دونه من المقامات معلولاً، ولا بد من فصل القول فيه بعون الله وتأْييده، فإنه نهاية إِقدامهم وغاية مرماهم. فنقول وبالله التوفيق: