الدين محفوظ بحفظ الله الحفيظ العليم
جمالية الدين ثابتة لا غبار عليها، ولا يخشى عليها. وإنما الذي يعتريه التشوه والانحراف هو التدين. وأما الدين فهو محفوظ بحفظ الله الحفيظ العليم. إلا أن ضياع الدين بضياع التدين وارد بمعنى آخر؛ وذلك أن التدين إذا جَمُل وحَسُن لَحِقَ جمالُه بالدين؛ فيزيده جمالاً وبهاء، كما أنه إذا فسد وساء لحقه فساده؛ فيشوه معالمه، ويكسف صورته في العالم! وهنا تكمن المشكلة التي من أجلها كتبت هذا الكتاب!
لقد أتى على المسلمين حين من الدهر ضاعت منهم فيه قيم الدين؛ فتشوهت في قلوبهم وتصوراتهم مقاصده الجميلة. والنتيجة: أنِ انحرفَ بذلك في حياتهم منهج الدين! لقد طغى على بعض المتدينين اليوم سلوك خطير أعوج، وهو اعتقادهم الشعوري، أو اللاشعوري، بأن الدين الحق إنما هو الخشونة، والحُزُونَةُ في القول والعمل!
إن الظروف التاريخية الحديثة والمعاصرة، وكذا الظروف السياسية التي أظلت العالم الإسلامي منذ بداية القرن الميلادي العشرين، والتي ما تزال تظله مع مطالع هذا القرن الجديد، قلت: إن هذه الظروف كلها أنتجت حالة (رد فعل) سيئة غير متوازنة، لدى بعض المتدينين، سواء في فهم الدين، أو في انتهاجه وسلوكه.
إن النار التي يُحَرَّقُ بها المسلمون في العالم اليوم، جماعات وشعوباً – وخاصة أجيال حركة الوعي الإسلامي، وطلائع الصحوة الإسلامية – جعلت تعابير طوائف منهم، وأشكالاً من ممارسة بعضهم، تنفث رماداً ودخاناً! فاستغله الإعلام الغربي – ومن هو على شاكلته ونهجه من الإعلام العربي – استغلالا سيئا؛ لخدمة أغراضه المركزية! فرسم للدين صورة كاركاتورية مفزعة! ما أنزل الله بها من سلطان! إذ سلط الضوءعلى النقطة السوداء في المجتمع الإسلامي، وضخَّمها تضخيما! وعرض الصورة الشاذة بدل الصورة الطبيعية. تماماً كما يقع للوجه الجميل النابض بالجمال، إذا ركزت نظرك لا على هيأته الكلية، وإنما على موقع خالة ذات سواد غامق فيه، حتى لا تكاد ترى منه غيرها، فتضخمت في عينك حتى استوعب نتوؤها في خيالك كل الوجه! فتحول الجمال فيه إلى صورة مفزعة! ولو نظرت إلى الخالة بحجمها الصغير في عرض الوجه؛ لفاض الحُسنُ المتدفق من كل تقاسيمه ومعالمه عليها، ولرأيتها آنئذ جمالاً في ذاتها! بل لرأيتها سراً من أسرار جمال الوجه، وعينا من عيون الحسن المتدفق عليه! ولكن لعن الله العمى!
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
(الحج: 46)
. ورحم الله الشاعر العربي إذ قال:
وعين الرَّضا عن كل عيبٍ كليلةٌ *** ولكنَّ عينَ السخطِ تُبْدِي المَسَاويَا!
وللأسف الشديد؛ فإن ذلك كان من الأسباب الرئيسية، الكامنة وراء ضمور الوجه الجميل للدين، الذي هو وجهه الحقيقي، المعبر عن تناسق قسماته وصفاء جوهره.
إن طوائف من أبناء جيل الصحوة الإسلامية اليوم، قد تخشبت قلوبهم، وتشنجت أقوالهم وتحجرت عيونهم؛ فكانوا مثالاً للتدين الفج، والسلوك القبيح، والذوق المتردي! وقد استغل الإعلام المغرض هذه الحالات الشاذة المنحرفة؛ فكان أن انطبع بذلك في فهوم كثير من الناس، أن الدين هو أبعد ما يكون عن قيم الحب والجمال! وكأنه ما أنزل إلا ليكون ملاذا "ايديولوجيا" لمرضى العقول ومتخلفي الأذواق والشعور!
ألا ما أكان أحرى بهؤلاء أن يحافظوا للناس على رونق الدين، ورواء التدين، ويقدموا مثالاً فنياً رفيعا للإيمان، يشع بالجمال الآسر للقلوب، ويخرجوا للعالم نموذجاً بهياً للسلوك، يسحر العقول، ويأخذ بالألباب، فيكون المسلم بذلك آية للجمال الرائق الرقراق، السارب أريجه في الأنفس والمجتمعات! ولا يصبغوها بأحوالهم النفسية التي تعاني تحت ضغط العالم الظالم، والطغيان العاتي هنا وهناك. ولكن.. ما أسوأ ردود الأفعال المتشنجة!
لقد عورضت نصوص الكتاب والسنة معارضات غير متوازنة، وضرب بعضها ببعض! فشاهت الفهوم، وكانت الكارثة! غابت نصوص التيسير والتبشير، وسيطرت فهوم التعسير والتنفير؛ فاختل التوازن في تدين كثير من الناس فهماً وتطبيقاً!
ساءت النماذج في هذا الزمن الأعور؛ حتى لقد شعرت – كما شعر كثير غيري – أننا في حاجة ماسة إلى (تَذّكُّرِ) أن الدين جميل حقا.. وأن التدين إنما هو تَمَثُّلُ قِيَمِ الجمال، والتزين بأنوارها في السلوك والوجدان.
نعم الدين جميل.. وأي شيء يكون جميلاً في هذه الدنيا إن لم يكن هو الدين؟