الشيطان لص الإيمان
متى أراد العبد شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التى يجدها بعد التوبة النصوح، والسرور واللذة التى تحصل له، والجزاءُ من جنس العمل. فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أَعقبه فرحاً عظيماً. وهاهنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه فى هذا الشأْن. وهى أن كل تائب لا بد له فى أول توبته من عصرة وضغطة فى قلبه من هم أَو غم أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تأَلمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره، فأَكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه [المحنة].
والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم، ولذلك أسباب عديدة: منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه، وقوة استعداده، ولو كان قلبه ميتاً واستعداده ضعيفاً لم يحصل له ذلك..
وأيضاً فإن الشيطان لص الإيمان، واللص إنما يقصد المكان المعمور، وأما المكان الخراب الذى لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن فى قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه.
وأيْضاً فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضة وضده، ومثل هذا إما أن يكون رأساً فى الخير أو رأساً فى الشر، فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست فى الخير، وإن كانت شريرة رأست فى الشر.
وأيضاً فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب زيادة انشراحه وطمأنينته. وأيضاً فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله فى الخلق.
فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التى حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها، وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأُنس به واتخاذه ولياً ووكيلاً [وكافياً] وحسيباً هل يكتسب العبد شيئاً أشرف منه؟ وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه، حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه، والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه، والواقف مع حاله، والواقف مع ذوقه وجمعيته وحظه من ربه، والمطلوب منهم وراءَ ذلك كله.
والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأُمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن، ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاءُ ويتميز من يصلح ممن لا يصلح، قال تعالى: {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1- 3]، وقال: {لِيَبْلُوكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلاً أفضت به إلى رياض الأُنس وجنات الانشراح، وإن لم يصبر لها انقلب على وجهه. والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه.
والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده- مع أنه لم يأْت نظيره فى غيرها من الطاعات- دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله، وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات، وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها، فهذا بعض ما احتج به لهذا القول.
وأما الطائفة التى قالت: لا يعود إلى مثل ما كان، بل لا بد أن ينقص حاله، فاحتجوا بأن الجناية توجب الوحشة وزوال المحبة ونقص العبودية بلا ريب.
فليس العبد الموفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد المفرط فى حقوقه، وهذا مما لا يمكن جحده ومكابرته، فإذا تاب إلى ربه ورجع إليه أثرت توبته برك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه، وأَما مقام القرب والمحبة فهيهات أن يعود.
قالوا: ولأن هذا فى زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السير إلى الله، فلو كان واقفاً فى موضعه لفاته التقدم فكيف وهو فى زمن المعصية كان سيره إلى وراءَ وراء؟ فإذا تاب واستقبل سيره، فإنه [يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافة حتى يصل إلى الوضع الذى] تأخر منه. قالوا: ونحن لا ننكر أنه قد يأْتى بطاعات وأعمال تبلغه إلى منزلته [وإنما انكرنا أن يكون بمجرد التوبة النصوح يعود إلى منزلته وحالته]، وهذا مما لا يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إلى الطريق، فلا يصل إلى مكانه الذى رجع منه إلا بسير مستأْنف يوصله إليه، ونحن لا ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعمالاً عظيمة لم يكن ليعملها قبل الذنب توجب له التقدم.
قالوا: وأيضاً، فلو رجع إلى حاله التى كان عليها أو إلى أرفع منها لكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالاً منه، فكيف يكون هذا، وأين مسير صاحب الطاعة فى زمن اشتغال هذا بالمعصية؟ وكيف يلتقى رجلان أحدهما سائر نحو المشرق والآخر نحو المغرب، فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر والآخر مجدٌ على سيره، فإنه لا يزال سابقه ما لم يعرض له فتور أو توان؟ هذا مما لا يمكن جحده ودفعه.
قالوا: وأيضاً فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض الجسم بالأسقام، والتوبة بمنزلة شرب الدواءِ، والمريض إذا شرب الدواءَ وصح فإنه لا تعود إليه قوته قبل المرض، وإنْ عادت فبعد حين.
قالوا: وأيضاً فهذا فى زمن معالجة التوبة ملبوك فى نفسه، مشغول بمداوتها ومعالجتها، وفى زمن الذنب مشغول بشهواتها، والسالم من ذلك مشغول بربه قد قرب منه فى سيره فكيف يلحقه هذا؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة لقولها.
وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية، فسمعته يحكى هذه الأَقوال الثلاثة حكاية مجردة، فإما سألته وإما سئل عن الصواب منها، فقال: الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها، [مما كانت]، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان. فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأشد حذراً وأعظم تشميراً وأعظم ذلاً وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان، وإن كان قبل الخطيئة أكمل فى هذه الأُمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه، وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته. هذا معنى كلامه [رضى الله عنه].
قلت: وهاهنا مسألة هذا الموضع أخص المواضع ببيانها، وهى أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً، فهل تمحى تلك السيئات ويذهب لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه من المفسرين وغيرهم قديماً وحديثاً، فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، لكن يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة.
قال ابن عطية: يجعل أَعمالهم بدل معاصيهم الأُولى طاعة، فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو فى يوم القيامة، قال: وقد ورد حديث فى كتاب مسلم من طريق أبى ذر يقتضى أن الله سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذى والطبرى، وهذا تأْويل سعيد بن المسيب فى هذه الآية. قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو، هذا آخر كلامه.
قلت: سيأتى إن شاء الله ذكر الحديث بلفظه والكلام عليه. قال المهدوى: وروى معنى هذا القول عن سلمان الفارسى وسعيد بن جبير وغيرهما. وقال الثعلبى: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: {يبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] يبدلهم الله بقبيح أعمالهم فى الشرك محاسن الأعمال فى الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصاناً. وقال آخرون: يعنى يبدل الله سيئاتهم التى عملوها فى حال إسلامهم حسنات يوم القيامة.
وأصل القولين أن هذا التبديل هل هو فى الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال: إنه فى الدنيا قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها، وهى حسنات وهذا تبديل حقيقة. والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة لا تنقلب حسنة، بل غايتها أن تمحى وتكفِّر ويذهب أثرها فأما أن تنقلب حسنة فلا، فإنها لم تكن طاعة، وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب فكيف تنقلب محبوبة مرضية.
قالوا: وأيضاً فالذى دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} [آل عمران: 193]، وقوله تعالى: {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 30] [المائدة: 15] وقوله تعالى: {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53]، والقرآن مملوءٌ من ذلك.
وفى الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فى النجوى؟ قال: سمعته يقول: "يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإنى قد سترتها عليك فى الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله عز وجل"، فهذا الحديث المتفق عليه الذى تضمن العناية بهذا العبد إنما فيه ستر ذنوبه عليه فى الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة.
فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها، وقد قال الله فى حق الصادقين: {لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِى عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَْحْسَنِ الَّذِى كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35]، فهؤلاء خيار الخلق، وقد أخبر أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم، ويجزيهم بأحسن ما يعملون، وأحسن ما عملوا [إنما هو الحسنات لا السيئات فدل على أن الجزاء بالحسنى] إنما يكون على الحسنات وحدها، وأما السيئات [فإن فحسبها أن] تلغى ويبطل أثرها، قالوا: وأيضاً فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات فى حق التائب لكان أحسن حالاً من الذى لم يرتكب منها شيئاً وأكثر حسنات منه، لأنه إذا أساءَ شاركه فى حسناته التى فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه، وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئته له؟
قالوا: وأيضاً فكما أن العبد إذا فعل حسنات، ثم أتى بما يحبطها فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها، بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها، فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها، فإنها لا تنقلب حسنات. فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته، [لم ننازعكم] فى هذا، وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضى ثواباً وجودياً.
واحتجت الطائفة الأخرى التى قالت: هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة.
وهذا إنما يكون فى السيئة المحققة وهى التى قد فعلت ووقعت، فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأُثبت مكانها حسنة قالوا: ولهذا قال تعالى: {سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم [لأنها] من غير صنعهم وكسبهم، بل هى مجرد فضل الله وكرمه.
قالوا: وأيضاً فالتبديل فى الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم، فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات، ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات، والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها كما قال الله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] وأما ما كان من غير الفاعل فإنه يجعله من تبديله هو كما قال الله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذى يبدل سيئاتهم حسنات دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم، لا أنهم فعلوه من تلقاءَ أنفسهم، وإن كان سببه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.
قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم فى صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور ابن سُويد عن أبى ذر رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنى لأعلم آخر أهل الْجَنَّة دخولاً الجنة، وآخر أهل النار خروجاً منها: رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أْن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياءَ لا أراها [هاهنا]"، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبى ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، قال: فتعرض عليه، ويخبأ عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا وكذا؟ وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبار، فيقال: اعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، قال: فيقول: إن لى ذنوباً ما أراها"، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه.
قالوا: وأيضاً فروى أبو حفص المستملى عن محمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة، حدثنا الفضل بن موسى القطيعى عن أبى العنبس عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات"، قيل: من هم؟ قال: "الذين بدل سيئاتهم حسنات".
قالوا: وهؤلاء هم الأبدال فى الحقيقة، فإنهم إنما سموا أبدالاً لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التى عملوها حسنات، قالوا: وأيضاً فالجزاءُ من جنس العمل، فكما بدلوهم أَعمالهم السيئة بالحسنة بدلها الله من صحف الحفظة حسنات جزاءً وفاقاً.
قالت الطائفة الأُولى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبى ذر على صحة قولكم وهو صريح فى أن هذا الذى قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها فى النار حتى كان آخر أهلها خروجاً منها؟ فهذا قد عوقب على سيئاته فزال أثرها بالعقوبة، فبدل مكان كل سيئة منها حسنة، وهذا حكم غير ما نحن فيه، فإن الكلام فى التائب من السيئات، لا فيمن مات مصراً عليها غير تائب، فأَين أحدهما من الآخر؟
وأما حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسناداً ومتناً، إلا أنه مختصر.
وأما حديث أبى هريرة [فلا] يثبت مثله، ومَن أبو العنبس، ومن أبوه حتى يقبل منهما تفردهما بمثل هذا الأمر الجليل؟ وكيف يصح مثل هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدة حرصه على التنفير من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم والإخبار بأنها تنقص الحسنات وتضادها؟ فكيف يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "ليتمنين أقوام أنهم أكثروا منها"؟، ثم كيف يتمنى المرءُ إكثاره منها، مع سوءِ عاقبتها، وسوءِ مغبتها؟ وإنما يتمنى الإكثار من الطاعات؟ وفى الترمذى مرفوعاً: "ليتمنينَّ أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض، لما يرون من ثواب أهل البلاءِ".
فهذا فيه تمنى البلاءِ يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله، وهو تمنى الحسنات، وأما تمنى الحسنات فهذا لا ريب فيه، وأما تمنى السيئات فكيف يتمنى العبد أَنه أَكثر من السيئات؟ هذا مال لا يكون أبداً، وإنما يتمنى المسيء أن لو لم يكن أساءَ، وأما تمنيه أنه ازداد من إساءته فكلا.
قالوا: وأَما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة فحق. وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت فى مكان السيئة التى لولا الحسنة لحلت محلها. قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم وذلك يقتضى أن تكون هى السيئات الواقعة.
وتنكير الحسنات وهو يقتضى أن تكون حسنات من فضل الله، فهو حق بلا ريب ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها مقارناً لكسبهم إياها بفضله؟ قالوا: وأما قولكم: إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم وذلك يقتضى أنه هو الذى بدلها [سبحانه] من الصحف لا أنهم هم الذين بدلوا الأَعمال بأضدادها، فهذا لا دليل لكم فيه، فإن الله خالق أفعال العباد، فهو المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً.
قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاءَ من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم بدلها الله كذلك فى صحف الأعمال، فهذا حق وبه نقول، وأنه بدلت السيئات التى كانت مهيأة ومعدة أن تحل فى الصحف بحسنات حلت موضعها.
فهذا منتهى أقدام الطائفتين، ومحط نظر الفريقين. وإليك أيها المنصف الحكم بينهما، فقد أدلى كل منهما بحجته، فأقام بينته، والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما، فأَرشد الله من أعان على هدى فنال به درجة الداعين إلى الله القائمين ببيان حججه ودينه، أو عذر طالباً منفرداً فى طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من رفيق فى الطريق، فغاية أُمنيته أن يخلى بينه وبين سيره وأن لا يقطع عليه طريقه.
فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه فقد رضى بالدون، وحصل على صفقة المغبون، ومن شمر إليه ورام أن لا يعارضه معارض، ولا يتصدى له ممانع فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأْوائها وشدتها فهو والله الفوز المبين والحظ الجزيل.. وما توفيقى إلا بالله عليه توكلت وإليه أُنيب.
فالصواب إن شاءَ الله فى هذه المسألة أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنما هى أمر وجودى يقتضى ثواباً، ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهى، وذلك الكف والحبس أمر وجودى وهو متعلق الثواب.
وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً ولم يحدث به نفسه، فهذا كيف يثاب على تركه، ولو أُثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التى لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى، فإن التَرك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما لا يتوهم.
وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمراً وجودياً فالتائب من الذنوب التى عملها قد قارن كلَّ ذنب منها ندماً عليه، وكف نفسه عنه، وعزم على ترك معاودته. وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم، وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنة.
وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة. فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة.
وقال بعض المفسرين فى هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة، وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال، واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.
وأما حديث أبى ذر - وإن كان التبديل فيه فى حق المصرّ الذى عذب على سيئاته - فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته، فإن الذنوب التى عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة، لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة [لاقتضى] زوال أثرها وتبديلها حسنات، فإن الندم لم يكن فى وقت ينفعه، فلما عوقب عليها وزال أثرها بدلها الله له حسنات.
فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة، فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة حسنات فلأن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات أولى وأحرى. وتأثير التوبة فى هذا المحو والتبديل أقوى من تأْثير العقوبة لأن التوبة فعل اختيارى أَتى به العبد طوعاً ومحبة لله وفرقاً منه.
وأما العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التى تصيبه بغير اختياره بل بفعل الله، ولا ريب أن تأْثير الأفعال الاختيارية التى يحبها الله ويرضاها فى محو الذنوب أعظم من تأْثير المصائب التى تناله بغير اختياره.
ولنرجع الآن إلى المقصود وهو [الكلام على] ما ذكره أبو العباس بن الصائف فى علل المقامات، فقد ذكرنا كلامه فى علة مقام الإرادة، [والكلام عليه وذكرنا كلامه فى مقام الزهد وقوله أنه من مقامات العامة] وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه هذا آخر الوجه الثانى منها.
الوجه الثالث أن يقال: قوله: "الزهد تعظيم للدنيا، واحتباس عن الانتفاع بها" إلى آخر الفصل، إن أراد به أن زهده دليل على تعظيم الدنيا وأن لها فى قلبه من بالقدر والمنزلة ما يكره لأجله نفسه على تركها، أو مستلزم لذلك، فإن الزهد لا يدل على هذا التعظيم، ولا يستلزمه - وإن كان من عوارض غلبات الطبع التى تذم مساكنتها وانحجاب القلب بها - بل زهده فيها دليل على خروج عظمها من قلبه [ وقلة ] مبالاته بها وترك الاهتبال بشأْنها، فكيف يكون هذا نقصاً بوجه؟ بل النقص فى الزهد يكون من أحد وجوه:
أولها: أن يزهد فيما ينفعه منها، ويكون قوة له على سيره ومعونة له على سفره، فهذا نقص. فإن حقيقة الزهد هى أَن تزهد فيما لا ينفعك، والورع أن تتجنب ما قد يضرك. فهذا الفرق بين الأمرين.