الصبر
المثال الخامس: الصبر. قال أبو العباس: "وهو من منازل العوام أيضاً، لأن الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته. وهذا فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة، فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى فى تحمل الأذى بالبلوى. وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى.
وقيل: إنه على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض، فالأول: التصبر، وهو تحمل مشقة، وتجرع غصة، والثبات على ما يجرى من الحكم. وهذا هو التصبر لله وهو صبر العوام. والثانى: الصبر، وهو نوع سهولة تخفف عن المبتلى بعض الثقل، وتسهل عليه صعوبة المراد، وهو الصبر لله، وهو نوع سهولة، وهو صبر المريدين. والثالث: الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى، وهذا هو الصبر على الله، وهو صبر العارفين". والكلام على هذا من وجوه:
أحدها: أن يقال الصبر نصف الدين، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر. قال تعالى: {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19]، وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "والذى نفسى بيده، لا يقضى الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له: إن أصابته سراءٌ شكر فكان خيراً له، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن". فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر، والذى يوضح هذا:
الوجه الثانى: وهو أن العبد لا يخلو قط من أَن يكون فى نعمة أَو بلية، فإن كان فى نعمة ففرضها الشكر والصبر. أما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها، وأما الصبر فعن مباشرة الأَسباب التى تسلبها، وعلى القيام بالأسباب التى تحفظها فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى. ومن هنا يعلم سر مسألة الغنى الشاكر والفقير الصابر، وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر، وأنه قد يكون صبر الغنى أكمل من صبر الفقير. كما قد يكون شر الفقير أكمل، فأفضلهما أعظمهما شكراً وصبراً، فإن فضل أحدهما فى ذلك فضل صاحبه.
فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به، والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به. فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر، ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر، وإن كان فى بلية ففرضها الصبر والشكر أيضاً: أما الصبر فظاهر، وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه فى تلك البلية، فإن لله على العبد [عبودية فى البلاء كما له عليه عبودية فى النعماء وعليه] أن يقوم بعبوديته فى هذا وهذا. فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر، ما دام سائراً إلى الله.
الوجه الثالث: أن الصبر ثلاثة أقسام: إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة فالصبر لازم له أبداً لا خروج له البتة.
الوجه الرابع: أن الله سبحانه ذكر الصبر فى كتابه فى نحو تسعين موضعاً، فمرة أمر به، ومرة أثنى على أهله، ومرة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر به أهله، ومرة جعله شرطاً فى حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله، وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياؤه ورسله، فقال عن نبيه أيوب: {إِنَا وَجَدْنَاهُ صَابِرَاً، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب} [سورة ص: 44]، وقال [تعالى] لخاتم أنبيائه ورسله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنِ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35]، وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ} [النمل: 127]، وقال يوسف الصديق، وقد قال له إخوته: {أَإِنَّكَ لأنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِى، قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيَعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90]، وهذا يدل على أن الصبر من أجل مقامات الإيمان، وأن أخصّ الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياماً وتحققاً به، وأن الخاصة أحوج إليه من العامة.