الصبر سبب فى حصول كل كمال
الوجه الخامس: أن الصبر سبب فى حصول كل كمال، فأكمل الخلق أصبرهم، ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره، فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص.
فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل، ولهذا فى دعاء النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه: "اللَّهم إنى أسألك الثبات فى الأمر والعزيمة على الرشد"، ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر، فلو علم العبد الكنز الذى تحت هذه الأحرف الثلاثة أعنى اسم "الصبر" لما تخلف عنه.
قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما أُعطى أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر"، وقال عمر بن الخطاب [رضى الله عنه] حين غشى عليه: أدركناه بالصبر. وفى مثل هذا قال القائل:
نزه فؤادك عن سوانا والقنا فجنابنا حل لكل منزه
والصبر طلّسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلَّسم فاز بكنزه
فالصبر طلسم على كنز السعادة، من حله ظفر بالكنز.
الوجه السادس: قوله: "الصبر حبس النفس على مكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، ومكابدة الغصص فى تحمله، وانتظار الفرج عند عاقبته"، فيقال: هذا أحد أقسام الصبر، وهو الصبر على البلاءِ. وأما الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه، بل [يتجلى] بها ويأْتى بها محبة ورضى، ومع هذا فالصبر واقع عليها، فإنه حبس النفس على مداومتها والقيام بها، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى} [الكهف: 28]، وأما الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه، وقد لا يعرض فيه، لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته.
وإذا كان ما ذكر من الأُمور الأربعة إِنما يعرض فى الصبر على البلية فقوله: "إنه فى طريق الخاصة تجلد ومناوأَة وجرأَة ومنازعة" ليس كذلك، وإنما فيه التجلد، فأين المناوأة [والجرأة] والمنازعة؟
وأما لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تعدم فلا يصح أن يقال: إن وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأَة ومنازعة، بل هو محض العبودية والاستكانة وامتثال الأَمر، وهو من عبودية الله المفروضة على عبده فى البلاءِ، فالقيام بها عين كمال العبد ولوازم الطبيعة لا بد منها، ومن رام أن لا يجد البرد والحر والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها فقد رام الممتنع.
وهل يكون الأَجر إلا على وجود تلك الآلام والمشاق والصبر عليها؟ وقد ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشد الناس بلاءَ الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل"، وقيل له فى مرضه: إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: "أجل إن لى أجر رجلين منكم" يعنى فى وعكة [صلى الله عليه وسلم].
ولا ريب أن ذلك الوعك مؤلم له صلى الله عليه وسلم، وأيضاً فى مرض موته قال: "وارأْساه"، وهذا إنما هو من وجود أَلم الصداع، وكان يقول فى غمرات الموت: "اللَّهم أَعنِّى على سكرات الموت" [ويدخل يده فى القدح ويمسح وجهه بالماء من كرب الموت]، وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته صلى الله عليه وسلم.
وهل كان ذلك إلا محض العبودية وعين الكمال؟ وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا فى ترك الصبر، وفى التسخط والشكوى؟