المحاسبة والتوبة


من مدارج السالكين لابن القيم

 

 
 
المحاسبة والتوبة
من مدارج السالكين لابن القيم بتصرف واختصار
المحاسبة دل عليها قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد" فأمر سبحانه العبد بكمال الاستعداد ليوم المعاد، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا.
 
 
والمحاسبة لها أركان: أحدها أن تقايس بين نعمته وجنايتك حتى يتبين لك جلال الرب وكماله وحقيقة النفس وصفاتها وأنها منبع كل شر ونقص، وأنه لولا فضل الله ورحمته ما زكت أبدا، فكما أنها ليس لها من ذاتها وجود فكذلك ليس لها من ذاتها كمال، وهذه تحتاج إلى سوء الظن بالنفس لأن حسن الظن بها يمنع كمال التفتيش، كما تحتاج إلى تمييز النعمة من الفتنة، فكل نعمة تؤدي إلى الفرح والبطر والتحدث عن النفس والاستعلاء على الغير فهي فتنة.
 
 
كما تحتاج إلى تمييز بين المنة والحجة فكل علم صحبه عمل يرضي الله سبحانه فهو منة وإلا فهو حجة، وكل حال مع الله تعالى أو مقام اتصل به السير إلى الله ونصرة دينه والدعوة إليه فهو منة من الله وإن صحبه الوقوف عنده ولذة النفس به وركونها إليه فهو حجة من الله عليه، فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
 
 
أما التوبة فقد ثبت في الصحيحين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لله أفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان له راحلة بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح) هذا لفظ مسلم وهذا الفرح له شأن لا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته وأنه سبحانه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وأنه سبقت رحمته غضبه وأنه أحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ويغمرهم إحسانا وجودا فإذا عصاه عبده ومحبوبه وفتح على نفسه طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى بمعصيته من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر.
 
 
فبينما ذلك العبد مع العدو في طاعته ناسيا لسيده منهمكا في موافقة عدوه فتذكر بر سيده وجوده وكرمه وعلم أنه لا بد له من لقائه وأن مصيره إليه ففر إلى سيده وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه فوضع خده على عتبة بابه متذللا متضرعا خاشعا باكيا آسفا يتملق سيده ويسترحمه ويستعطفه ويعتذر إليه فعلم سيده ما في قلبه فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ومكان الشدة عليه رحمة به وأبدله بالعقوبة عفوا وبالمنع عطاء فاستدعى بالتوبة من سيده ما هو أهله من الرحمة والجود والكرم والعطاء، فكيف يكون فرح سيده به.
 
 
 
 
وهذا موضع الحكاية المشهورة أن صبيا عق أمه حتى اضطرت لطرده من البيت فذهب مع رفقة السوء وبعد أيام وقف مفكرا فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ولا من يؤيه غير والدته فرجع مكسور القلب حزينا فوجد الباب مغلقا فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام فخرجت أمه فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه والتزمته تقبله وتبكي وتقول يا ولدي أين تذهب عني ومن يؤيك سواي ألم أقل لك لا تخالفني ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادتي الخير لك ثم أخذته ودخلت. فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها. هذا إذا نظرت إلى تعلق الفرح الإلهي بالإحسان والجود، وأما إن لاحظت تعلقه بإلهيته سبحانه وكونه المعبود الأوحد الذي تألهه القلوب وتفزع إليه فذاك مشهد أجل من هذا وأعظم منه وإنما يشهده خواص المحبين فإن الله سبحانه إنما خلق الإنسان لعبادته الجامعة لمحبته والخضوع له وطاعته وهذا هو الحق الذي خلقت به السموات والأرض، وهو سبحانه يحب أن يعبد ويطاع ولا يعبأ بخلقه شيئا لولا محبتهم وطاعتهم ودعاؤهم له.
 
 
 
فإذا خرج العبد عما خلق له من الطاعة والمحبة والعبودية فقد خرج عن أحب الأشياء إلى ربه وعن الغاية التي لأجلها خلق وصار كأنه خلق عبثا، فإذا رجع  الي ما خلق له فقد رجع إلى الغاية التي خلق لها فاشتدت محبة الرب له فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين فأوجبت هذه المحبة فرحا كأعظم ما يقدر من الفرح. فما الظن بمحبوب لك تحبه حبا شديدا أسره عدوك وحال بينك وبينه وأنت تعلم أن العدو سيسومه سوء العذاب ويعرضه لأنواع الهلاك وأنت أولى به منه، وهو غرسك وتربيتك ثم إنه انفلت من عدوه ووافاك على غير ميعاد يتملقك ويترضاك ويستعينك فكيف يكون فرحك به وقد اختصصته لنفسك ورضيته لقربك فهذا هو حقيقة الفرح.
السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ المحاسبة والتوبة

  • على عتبة الباب. .

    عبد الله بن مشبب بن مسفر القحطاني

    التوبة: هروب من المعصية إلى الطاعة، ومن السيئة إلى الحسنة، ومن وحشة العصيان إلى الأنس بالرحمن. إنها فرار من

    14/06/2022 713
  • مقال بعنوان: الحليم

    الموسوعة العقدية – الدرر السنية

    قال تعالى:  وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ

    30/11/2021 767
  • محاسبة النفس

    الشيخ محمد مختار الشنقيطي

    المحاسبة مفاعلة من الحساب، ومعنى ذلك: أن الإنسان يعيش مع نفسه في كل لحظة من لحظاته، إن خيراً حمد الله واهب الخير،

    02/02/2015 195
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day