المشهد الثالث:في جمالية التفكر الإيماني
من أسرار هذا الدين ولطائفه أن باب عقيدته هو التفكر! قال عز وجل في مخاطبة الكفار عبر رسوله الكريم:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}
(سبأ: 46)
آية في غاية الجمال والسمو! وإني أشهد أني مذ ذقتها وجدت أن بها بجراً من الأسرار التربوية لا يعلم مداه إلا الله. وإن لها لذوقاً وجدانياً خاصاً. أرأيت كيف أن الله تعالى يخاطب الكفار، بالقيام له، والتفرغ لشأنه، قبل الإيمان به؟ وذلك حتى يمكنهم الوصول إلى حقيقة الإسلام، هذا التدين الذي هم له منكرو! وقد شرط الله عليهم شرطاَ في كيفية القيام له: وهو الخلوة به وحده سبحانه! والعدد الوارد في الآية: (مَثْنَى وَفُرَادَى) على حقيقته، إذ ليس هناك في السياق ما يصرفه عن هذا الحقيقة. لكن لماذا التنصيص على الفردانية، أو الثنائية، بالضبط؟ لماذا كان ذلك شرطاً لتوقيع (التفكر)؟ إنه أمر عجيب!
العقل آلة: تلتقط الحقائق، وتعلقها، ولكنها لا تتخذ القرار! وإنما الذي يتخذ القرار هو القلب بمعناه القرآني الخاص!
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(محمد: 24)
ومنه قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا}
(الأعراف: 179)
فإذا كان القلب محجوباً بحجب المادة، والكثرة؛ عجز عن الوصول إلى ما يعرضه عليه العقل من صور معقولات! فلا يتخذ القرار المناسب في الوقت المناسب. ومن هنا كان جوهر التفكر في القرآن قلبياً! ولذلك فقد وجدناه ينتج عنه شعور قلبي هو الخوف؛ نظراً لرهبة القلب مما يحلله له العقل، ويعرضه عليه من صور. وذلك نحو ما في الآية السابقة من سورة سبأ، إذ قال سبحانه في تتمتها:
{مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}
وأظهر منه آية التفكر في سورة آل عمران:
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
(آل عمران: 191)
إنه شعور الوجدان بهول الحقيقة وعظمتها. ولذلك قلت: إن التفكر فعل وجداني في العمق.
هو لذلك لا يقع من الناس إلا آحاداً، وإن حكي عنهم بضمير الجماعة، كما في الآية الأخيرة، فإنما المقصود أنه يحصل ذلك منهم فرادى لا مجتمعين، كما يدل عليه أول الآية: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}. فهذه صور تحيل على الناس وهم في شؤونهم الخاصة، بين منازلهم، وأفرشتهم، ونومهم، وقيامهم. وأغلب ذلك كله أحوال فردية. والأية الأولى:
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}
(سبأ: 46)
نص في فردانية فعل التفكر. ولذلك نكتة ستأتي بحول الله. أما الثنائية (مثنى) فهي ملحقة من حيث الفائدة بالفردانية. والمثنى في العربية ملحق بالمفرد. وإنما يبدأ الجمع في اللغة بالثلاثة. ثم إن التفكر بين اثنين (نجوى)، وهي أشبه ما تكون بتحديث الفرد نفسه. أما فائدة ذلك فهي أن التفرغ لله عز وجل في خلوة، لا يكدر صفوها عليك أحد من الخلق، يتيح للقلب أن يتفاعل في صفاء مع معطيات الفكر، ويتواجد متلذذاً بمواجيد الشعور بمعية الله، وحقائق الكون الكبرى . ومثل ذلك لا يحصل في لغط النقاش الجماعي، وضوضاء الجدل المتعدد! نعم رفيق النجوى، وهو الثاني: (مثنى)، يكون معك على موجدة واحدة في التأمل، وتبادل المشاعر والمواجيد. تماماً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو لربه فرداً، أو مع صاحبه أبي بكر الصديق أحياناً، أو غيره من الصحابة الكرام؛ فإذن تكون أبواب القلب أكثر انفتاحاً، لتقبل ما يلقى عليها من واردات الحب، والشوق، والمعرفة الربانية.
ومما يزيد هذه الآية دقة، فيما نحن فيه، التعبير بـــ(ثم) التي تفيد الترتيب. فكأنه تعالى جعل شكل التفكر (مثنى وفرادى) هو الكفيل وحده بنجاح عملية التفكر، ولذلك قال سبحانه: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا..!}
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ}!
.. فعل واحد لا ثاني له، كفيل بأن يقود الإنسان إلى الحقيقة: التفكر!.. هل خلوت بنفسك يوماً! أو ناجيت رفيقا لك في أمر الكون والحياة والمصير؟.. عندما يمتد الفكر سائحاً في أقاضي الكون؛ يضل ويتيه! وأنى له أن يهتدي في دروب ومسالك ينتهي الخيال ولا تنتهي منافذها؟.. إذن يرجع الفكر منكسراً عاجزاً! وإن ذلك لعمري هو الإسلام! الخضوع للعظمة المطبقة فوق الزمان والمكان، والاعتراف بالقصور عن الإحاطة؛ ولا بأي طرف من أطرافها!
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}
(الملك: 3-4)
. الرجوع إلى الصف الآدمي؛ للانضمام إلى سلك (العادة الطبيعية)، رجوع في العمق إلى الخدمة والعبودية! موجدة ليست في حاجة – حينئذ – إلا إلى الإفصاح والتعبير: (لا إله إلا الله).
وهنا يكمل جمال الدين: الدفء الحاصل عند الشعور بالانسجام مع سائر الخلق السيار. كل في سربه وفلكه:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
(الإسراء: 44)
هذا التوحيد الكوني في التعبير، بل هذا التناسق الكلي في نفث المواجيد، عبر شتى ألوان العبادة؛ له ذوق (الأنس) الذي يملأ القلب نشاطاً، وحباً للحياة الممتدة طولاً وعرضاً!
التنافس هنا إذن هو في طريق (المحبة). الكل يحب، والمحبوب واحد! تلك هي القضية.. إذن أينا يبذل أكثر؟ وأينا يشكر أكثر؟ فهذا مجال الإفصاح عن مواجيد الذلة لملك القلوب ومالكها. وكلما كان الحب أصدق كان أكثر إذلالا لصاحبه! ولكنها ذلة اللذة والمتعة العليا، والشعور بالراحة في سبيل رضى المحبوب.
وينطلق السباق!.. وتلك لذة أخرى، لها قصة أخرى!
الله! هذا المعنى العظيم الذي ننطلق منه لِنُقِرَّ أنه (لا إله إلا هو).. تدخل إلى ملكوته من باب (التفكر) بوجدان المحبة الكبرى.. ولكن كيف؟
لطالما كنت أقرأ عن رواد الحب الإلهي، فكنت أتعجب كيف يجدون هذه الموجدة، بهذا الشوق كله!.. فتفكرت دهراً؛ فإذا الباب ينفتح بمفتاح (الربوبية): الله هذا السيد العظيم هو الخالق لكل شيء من الجلائل والدقائق.. وما أنت أيها العبد في ملك الله العظيم، الممتد بلا حدود، إلا ذرة من البلايين التي لا يحصرها خيال، من الذرات السائرة في متاهة الكون الفسيح! ألم يكن ممكنا في قدر الله وقدرته تعالى ألا تكون أصلاً؟ إنها نعمة الخلق إذن؛ فأعظم بها من نعمة! لا تحصى حمداً ولا تحاط شكراً، ولو عشت أعمار الخلائق جميعاً حامداً وشاكراً!
{هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً}
(الإنسان:1).
. لمسة (الحياة) هي النعمة الكبرى بعد الخلق.. ألم يكن ممكناً أن تكون جماداً؟ ثم إنها حياة الروح أكبر هبة إلهية للإنسان! تأملأت القلب حيرة وعجباً أن يكون بين الناس في ظل هذه الحقائق الرهيبة كافرون! عجباً! ولا يملك المتفكر في آلاء الله ونعمائه العظمى إلا العجب!
أن تتفكر في جمال الإحسان الرباني: يعني أن تقع أسير أنواره، وجلال كماله، مؤمناً، خاشعاً، متبتلاً.. ذلك هو سر المحبة! وهو المعراج السري لقافلة المحبين السائرين إلى منازل الحبيب.. قال بديع الزمان النورسي رحمه الله: (ما دام ذلك الحكيم المطلق سلطاناً ذا جلال؛ بشهادة جميع إجراءاته الحكيمة، وبما يظهره من آثار جليلة.. ورباً رحيماً واسع الرحمة؛ بما يُبديه من آلاء وإحسانات.. وصانعاً بديعاً يحب صنعته كثيراً؛ بما يعرضه من مصنوعات بديعة.. وخالقاً حكيماً يريد إثارة إعجاب ذوي الشعور وجلب استحسانهم بما ينشره من تزيينات جميلة وصنائع رائعة؛ فإنه يُفهم مما أبدعه من جمال يأخذ بالألباب في خلق العالم؛ أنه يريد إعلام ذوي الشعور من مخلوقاته: ما المقصود من هذه التزيينات؟ ومن أين تأتي المخلوقات وإلى أين المصير) فهو إذن؛ (يعرف نفسَه ويودّدها، بمخلوقاته – غير المحدودة – ذات الزينة والجمال.. ويُوجب الشكر والحمد له؛ بنعمه – التي لا تحصى والامتنان، والشكر إزاء هذه التربية، والإعاشة، ذات الشفقة والحماية!).
فعلا.. إن الذي يشعر بالنعمة المسداة إليه يجد نفسه مطوقاً بحقها في الشكر.. ولكنها نعمة أكبر بكثير من أن تحصى أو تحصر.. فكيف تشكر إذن؟ هنا يمتلك القلبَ الشعورُ بالعجز والذلة والخضوع التام. وتلك هي (لا إله إلا الله).
(الله).. هذا الاسم الجميل كلمة تدل على الحياة العليا والنعمة الكبرى.. منه سبحانه نستمد الكينونة والحياة. وعطاؤه تعالى لا ينقطع أبداً، ولا يحصى عدداً. أن تملأ قلبك بمعرفة الله يعني أنك تملؤه بالحياة!.. أن تملأ قلبك بمعرفة الله يعني أنك تملؤه بالحب وأن تعبر عن ذلك كله يعني أن تقول: (لا إله إلا الله)، أي لا مرغوب ولا مرهوب إلا الله، ولا محبوب إلا الله، ولا يملك عليك مجامع القلب والوجدان إلا الله.. هذا السيد الجميل، والملك الجليل، والرب العظيم الرحيم.
إن العبد المسكون بحقيقة (لا إله إلا الله) لا يملك إلا أن يتدفق منجرفاً إلى الله.. تماماً كما تتدفق الأنهار سارية وساربة إلى مالكها.. فأنى له إذن أن يتخلف إذا سمع داعي الله ينادي أن حي على الصلاة، أو حي على الفلاح؟
طُيُوبُ الْحُبِّ إنْ مَسَّتْ فُواداً *** جَرِيحَ الْوُجْدِ كَانَ لَهَا نُشُوبُ!
وَهَلْ فِي الْعَاشِقِينَ الْغُرِّ غُصْنٌ *** يُنَادِيِهِ الْحَبِيبُ وَلَا يُجِيبُ؟
يتخلف؟.. كيف؟ وها المسلم: إنما هو ذلك العبد الذي يحمل جمرة الشوق إلى الله؟ يسبغ الوضوء على المكاره، وينقل الخطى إلى المساجد يسرى في الظلم، ويسرب في الهجير، متقلباً بين حَرِّ وقَرِّ، ويجاهد في سبيل الله! ينثر روحه أزهاراً على الثرى، طمعاً في رضى المحبوب، الذي تعلقت به القلوب! والمسلم هو ذلك العبد الذي فاض قلبه بحب الله؛ فلا تجد من سلوكه إلا مسكاً! ولا ترى من خطوته إلا كياسة وفطنة، ولا يلقاك إلا بالكلمة الطيبة والسريرة الحسنة.
الإسلام هذا الجمال الإلهي العالي، دين ليس كأي دين، لكن.. لو كان له ذواق! ذلك هو (الإسلام) دين المحبة. وذلك هو المسام السالك مَدارِجَ المحبين. وأني لمن خفق قلبه بلمسة الحب أن يكون شريراً؟.. الحب هو الشعور الفياض بالجمال، إذا خالط قلباً أحاله جداول من الإيمان واليقين. وامرؤ كان ذلك شأنه لا يتصور فيه أن يؤذي أحداً أبداً! لأنه لا يملك من المواجيد في قلبه إلا الحب. وكل إناء يرشح بما فيه. إنه لا يملك إلا أن يملأ المكان بمواجيد المحبة، ورياحين الشوق في سيره الوجودي إلى الله..!