فالذي لا يعير للكلام – أي كلام – الخطورةَ التي يستحقها فهو جاهل بحقائق الدين وحقائق الوجود معا! وكثير من العقوبات في الإسلام والحدود والتعازير والآثام ...إلخ؛ إنما ترتبت شرعا عن مجرد (كلام) يتكلم به الإنسان باطلا! بدءا بكلمة الكفر إلى كلمة القذف، إلى ما شابه ذلك من كلمات الغيبة، والنميمة، وعبارات السخرية والتنابز بالألقاب، وهلم جرا..!
كما أن بدء الخير كله "كلمة". انطلاقا من كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، وما يتممها من (شهادة أن محمدا رسول الله)؛ إلى أبسط كلمات الإيمان والإحسان، كإفشاء السلام، وتشميت العاطس، وإرشاد السائل... وما بين هذا وذاك من كليات الكلام وجزئياته؛ فإنه جميعا يَؤُولُ – في النهاية - إلى بناء عمران الحياة الإنسانية، القائمة على العدل والسلام؛ لأن ذلك كله هو الذي ينتج فعل الخير بمعناه المطلق، ويحقق غاية الوجود البشري في الأرض. ومن هنا كانت أول نعمة امتن الله بها على الإنسان بعد نعمة الخلق أنه علمه البيان! ولذلك كان القرآن بين يديه - وهو كلام الله – الأداة الكلامية الفاعلة لإقامة الحياة في الأرض بالقسط والميزان!
(الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ. خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ. وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ!)
وأول الوزن وزن الكلام، الذي هو حقيقة (البيان)، فإذا خسر؛ خسرت كل الموازين بعده! بدءا بموازين السياسة – بمعناها العام – وما تتضمنه من موازين الإدارة والاقتصاد؛ إلى موازين التجارة وسائر المصارفات المالية والاجتماعية الجزئية والكلية... إلى كل طبائع العمران وتجليات الحضارة البشرية؛ إلى كل ما يمتد إليه ذلك من فقدان توازن الحياة الإنسانية والبيئية والكونية!
إن اللغة تصنع الحياة أو تدمرها! ومن هنا كانت مسؤولية الكلمة في الإسلام جسيمة جدا!
والإعلام اليوم هذا الطاغية الذي يسمونه (السلطة الرابعة)! ليس في واقع الأمر إلا السلطة الأولى! لأن المتسلط على الخلق، الحاكم أمرهم بالحق أو بالباطل؛ إنما وصل إلى مبتغاه من التسلط والتحكم بالكلمة! فحتى عندما يكون الأسلوب المتبع في التسلط قهريا؛ فإنما صنع الطاغية أدوات قهره وتجبره في البداية بالكلمة! ولا شيء يبدأ قبل الكلمة! فَبَدْءُ الوجود والخَلْقِ والتكوين في القرآن الكريم إنما هو كلمة! إنها كلمتُهُ جلَّ جلالُه: (كن فيكون!)
(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ! إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.)
إن الكلمة هي التي تصنع الصورة وتنتجها، بل هي جوهرها وحقيقتها؛ فلا يغرنك أن الإعلام اليوم صار يرتكز أساسا على الصورة، فإنما هذه – رغم خطورتها - بنت تلك في نهاية المطاف. ولولا الكلمات لما كانت الصور في الوجود أصلا! أضف إلى ذلك أن الصورة تُعْرَضُ حينما تُعْرَضُ في العادة الغالبة مسبوقةً بالكلمة، أو مقرونة بها، أو ملحقة بها! أو كل ذلك جميعا! فلا تأتي إذن إلا من خلالها! وحينما نتوهم أننا نتلقى صورا بغير كلمات، فإنما هي لعبة الكلمة المتخفية خلف الصورة! إنك لا تسمعها، نعم؛ ولكنها تتدفق إلى خواطرك في صمت، وتسكن اعتقادك بقوة! ومن ذا الذي قال إن الكلمة هي الصوت فقط؟ إنما الكلمة "مفهوم" يتواصل به الإنسان عبر اللغة الطبيعية، الصوتية أو الإشارية أو الصورية أو السيميائية، إلى غير ذلك مما في الوجود من رموز وأشكال نُصِبَتْ للدلالة على معنى! كل ذلك كلام!
إن الكلمة هي الوجود وما سواها صُوَر! ومن هنا ترى عمق الآية الكريمة:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا!)
؛ فانظر - في ضوء ذلك - إلى هذا الكلام الإلهي العظيم! كم هو فعلا يضرب في عمق الحقيقة، وإلى أي حد هو يوغل في مجاهيل الوجود!
إن الإعلام اليوم كما كان من قبل في التاريخ – رغم اختلاف الأشكال والتجليات – ليعتبر أخطر وسائل التحكم، وأرهب أدوات الصراع الحضاري، وأقوى آليات التدافع العمراني في الأرض!
إن الطواغيت الذين قهروا الناس في الأرض عبر التاريخ لم يكونوا بشرا فوق البشر في أبدانهم ولا في عقولهم! ولا كانوا "آلهة" في واقع الأمر، وإنما هم "متكلمون" فقط! أسسوا أسطورة من الكلام في أذهان الناس وسحروهم بها، أو ورثوا رصيدا كلاميا عن آبائهم وأجدادهم واستمروا في إنتاجه وتجديده؛ حتى تعيش الأسطورة في شعوبهم إلى الأبد! فكان منهم (ابن الشمس) و(حفيد الرب)، و(وكيل الآلهة)، وغير ذلك من سائر أنواع الكلام مما يدخل في
(فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ!)
وما كان طغيان فرعون في الأرض واستذلال أهلها؛ إلا من بعد أن أوهمهم بأنه هو ربهم الأعلى! فلم يكن يريهم إلا ما يرى!
(فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى!)
ومن هنا لما خالفه قائل الحق من رجاله نطق بقوة فقال،
(قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَاد!ِ)
. فكان بذلك مثالا لكل طغيان وتأله وتجبر!
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْييِ نِسَاءَهمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ!)
إنه قهر القوة والسلطان الباطل، الذي يصنعه - فقط - سحر الكلام! وانظر إن شئت إلى هذا البيان السحري الرهيب! الذي ألقاه فرعون على قومه من بعد ما زلزلت عرشَه آياتُ موسى عليه السلام؛
(وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ!؟ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ؟ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ!)
وتأمل جدا ما أعقب الله به خطاب فرعون:
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ!)
فهو إنما استخف في الواقع عقولهم!