بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم
بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم
وهذا مبنى على أصلين:
أحدهما: أن نفس الإِيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإِنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أَهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل، أو لأجل التعويض بالأجر لما فى إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل، بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب فى الصلاة والحج، وفرح قلبه وسرره ونعيمه فى ذَلِكَ وفى الصيام والذكر والتلاوة، وأَما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إِلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم، ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأَمل إِقدام القوم على قتل آبائهم وأَبنائهم وأَحبابهم ومفارقة أَوطانهم وبذل نحورهم لأَعدائهم ومحبتهم للقتل وإيثارهم على البقاءِ وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم، ووقوع هذا من البشر بدون أَمر يذوقه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللَّذة والسرور والنعيم أَعظم مما يقوم بقلب العاشق الذى يتحمل ما يتحمله فى موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقة به:
فيا منكراً هذا تأَخر فإِنه حرام على الخفاش أَن يبصر الشمسا
فمن كان مراده وحبه الله، وحياته فى معرفته ومحبته فى التوجه إِليه وذكره، وطمأْنينته به وسكونه إِليه وحده عرف هذا وأَقر به.
الأصل الثانى: كمال النعيم فى الدار الآخرة أَيضاً به سبحانه وتعالى: برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أَنه لا لذة فى الآخرة إِلا بالمخلوق من المأْكول والمشروب والملبس والمنكوح، بل اللّذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق تعالى أعظم وأعظم ما يخطر بالبال أَو يدور فى الخيال، وفى دعاءِ النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه الإِمام أَحمد فى مسنده وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما: "أَسْأَلُكَ لَذَّةَ الْنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، فِى غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" ولهذا قال تعالى فى حق الكفار: {كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين: 15- 16]، فعذاب الحجاب من أَعظم أَنواع العذاب الذى يعذب به أَعداءَه، ولذة النظر إِلى وجه الله الكريم أَعظم أَنواع اللذات التى ينعم بها أَولياؤه، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه.
وهذان الأَصلان ثابتان بالكتاب والسُّنَّة، وعليهما أَهل العلم والإِيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الطريق العارفون وعليهما أَهل السُّنَّة والجماعة، وهما من فطرة الله التى فطر الناس عليها، ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد وبالفطرة تارة وبالقياس والأَمثال تارة. وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق فى كتابنا الكبير فى المحبة الذى سميناه "المورد الصافى، والظل الضافى" فى المحبة وأَقسامها وأَنواعها وأَحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه. ومما يوضح ذلك ويزيده تقريراً أَن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا بضر ولا عطاء ولا منع بل ربه سبحانه الذى خلقه ورزقه وبصره وهداه وأَسبغ عليه نعمة وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إِليه بالمعاصى مع فقره إِليه، فإِذا مسه الله بضر فلا كاشف له إِلا هو، وإِذا أَصابه بنعمه فلا رادَّ لها ولا مانع كما قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ} [يونس: 107]، و {مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2]، فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطى ولا يمنع إِلا بإِذن الله، فالأَمر كله لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إِلا هو آخذ بناصيتها، أَلا له الخلق والأَمر تبارك الله رب العالمين، وهذا الوجه أَعظم لعموم الناس من الوجه الأَول، ولهذا خوطبوا به فى القرآن أَكثر من الأَول، لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أَن الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إِلى لأول، فهذا الوجه يقتضى التوكل على الله والاستعانة به والدعاءَ له ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضاً محبته وعبادته لإِحسانه إِلى عبده وإِسباغ نعمه عليه، فإِذا عبده وأَحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل فى الوجه الأَول.
وهكذا كمن نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أَو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويتضرع إِليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإِيمان به والإِنابة إِليه وما هو أَحب إِليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أَولا حتى يطلبه ويشتاق إِليه فعرفه إِياه بما أَقامه له من الأَسباب التى أَوصلته إِليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إِلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إِحسانه.
ومما يوضح ذلك ويقويه أَن فى تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة. وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحاً أَن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإِنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء فأَنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إِلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إِلا خذل، قال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 81- 82]، وقال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ} [يس: 74-75].
وقال تعالى عن إِمام الحنفاء أَنه قال للمشركين: {إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25]، ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته. ومما يوضح الأَمر فى ذلك ويبينه أَن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إِلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إِليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإِحساناً وجوداً محضاً فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أَنه غنى لذاته قادر لذاته حى لذاته، فإِحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إِلا كذلك، كما أَن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إِلا كذلك، وأَما العباد فلا يتصور أَن يحسنوا إِلا لحظوظهم، فأَكثر ما عندهم للعبد أَن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإِذنه لهم به، فهو فى الحقيقة ولى هذه النعمة ومسديها ومجريها على أَيديهم، ومع هذا فإِنهم يفعلون ذلك إِلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أَحبوه لجماله الباطن أَو الظاهر فإِذا أَحبوا الأَنبياءَ والأَولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أَحب إِنساناً لشجاعته أَو رياسته أَو جماله أَو كرمه فهو يحب أَن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أَحب ذلك، وإِن جلبوا له منفعة أَو دفعوا عنه مضرة- كمرض وعدو- ولو بالدعاءِ فهم يطلبون العوض إِذا لم يكن العمل لله، فأَجناد الملوك وعبيد المماليك وأَجراءُ المستأْجر وأَعوان الرئيس كلهم إِنما يسعون فى نيل أَغراضهم به، لا يعرج أَكثرهم على قصد منفعة المخدوم إِلا أَن يكون قد علم وهذب من جهة أُخرى فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أَو يكون فيه طبع عدل وإِحسان من باب المكافأَة والرحمة، وإِلا فالمقصود بالقصد الأَول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه إِذ قسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.