تبليغ الرسالات

تبليغ الرسالات


الشيخ / فريد الأنصاري

تبصرة: وأما المفتاح الثالث فهو تبليغ الرسالات:

وتبصرة هذا المفتاح هو: جواب (كيف البلاغ؟) أما تأصيله فقد سبق تقريره بقواعده، في تبصرة البلاغ الخامس، من بلاغات الرسالة القرآنية، وذلك ما جعلناه (في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

تبصرة: كيف البلاغ؟ ليس البلاغ اليوم في المسلمين بلاغ (خبر) هذا الدين، فذلك أمر قام به الأولون، وما بقي اليوم صقع في الأرض لم تبلغه قصة الرسالة الإسلامية، على الجملة، ثم إنما المقصود بمشروعنا هذا هو دار الإسلام، هذا العالم الإسلامي الذي لان فيه التدين، وضعف فيه التمسك بالكتاب ، مع أنه يتلوه – أو يتلى عليه – كل حين. إنما المسلمون اليوم في حاجة إلى (إبصار)، إبصار الحقائق القرآنية التي تتلى عليهم صباح مساء، وهم عنها عمون، على نحو ما وصف الله سبحانه في قوله:

{وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}

[الأعراف: 198]

  وقوله سبحانه:

{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}

[يوسف: 105].

فالبلاغ الذي نحن في حاجة إليه إنما هو بلاغ (التبصير)، لا بلاغ التخبير.

وأما مادته فما ذكرناه من أصول الرسالة القرآنية، وبلاغات القرآن: من اكتشاف القرآن العظيم، والتعرف إلى الله والتعريف به، واكتشاف الحياة الآخرة، واكتشاف الصلوات وحفظ الأوقات، وحقيقة الدعوة إلى الخير وحكمة اتباع السنة؛ تزكيةً وتعلُّماً وتحلُّماً، ومفاتيح ذلك كله في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما وسيلته فأصول وفروع، أما الفروع فلا تنحصر، وإنما الشرط فيها عدم نقض أصولها، ومعلوم في قواعد الأصول أن (كل فرع عاد على أصله بالإبطال فهو باطل).

وأما الأصول فأحسب أن مدارها على أمرين: سقي وتجذير. وقد سبق لنا بيانهما في ورقتنا الدعوية: (نظرية السقي المِرْوَحي والتجذير المتعدد الإنبات)؛ والمقصود بالسقي المروحي: استعارة حركة آلة السقي المروحية في المجال الزراعي، التي ترش الماء على المزروعات بصورة شمولية، ترش على كل ما حولها من جميع جهاتها، في حركة دائرية داسمة، وذلك هو حال المؤمن في حركته الدعوية يدور مع كلمة الخير حيث دارت، يسقي بها كل من لقيه في طريقه، وكل من اتصل به، في أي ظرف من الظروف، (يبَصِّر) الناس بحقائقها واعظاً وخطيباً ومتحدثاً ومحاوراً ومناقشاً، ومناطراً، وكاتباً، وقائماً، وقاعداً، وراجلاً، وراكباُ، وفي المسجد وفي السوق وفي المكتب وفي الجامعة وفي المدرسة وفي المستشفى وفي الشارع... إلخ، فلا يزال مستنيراً بقاعدة القرآن:

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ}

[فصلت: 33] ،

ذلك سقي مروحي. وأما التجذير فهو غرس جذور المقبلين على الخطاب القرآني وبصائره، المستزيدين من حقائقه. وإنما التجذير المفيد هاهنا هو (التجذير المتعدد الإنبات)، ذلك أن جذورالنبات والشجرعلى نوعين: نوع مقتصر في وظيفته على نبتة واحدة، أو شجرة واحدة؛ إمداداً عموديّاً بالماء والغذاء، ونوع ثان له طبيعة متكاثرة متناسلة، بحيث تتعدى وظيفته إمداد شجرته أو نبتته؛ إلى إنبات شجرة أخرى جديدة، أو إخراج نبتة أخرى جديدة، بصورة أفقية، تتكاثر شجراً، أو نباتاً متناثراً هنا وهناك، فمثال ذلك في الشجر: القصب والصفصاف ونحوهما، ومثاله في النبات: النجم البري، وكذلك النجم الرومي الذي تزين به اليوم الحدائق العامة. فمثل هذه الأشجار والنباتات بمجرد ما تضع لها في التربة جذراً واحداً وتسقيه بماء حتى يقوم بوظيفتين: الأولى أنه ينبت نبتته الخضراء، والثانية: أنه يسرح تحت الأرض ليفتق التربة في مكان آخر، بنبتة أخرى جديدة. ويتكاثر ذلك بصورة متوالية؛ حتى يخضر المكان كله، ويفيض بالنبات أو الشجر، كذلك المؤمنون المستجيبون لبلاغ الرسالة القرآنية، فإنهم تمد لهم جذور التربية في تربة الرباطات ويسقون بعد ذلك بماء المجالسات.

ويمكن أن يربطوا بهذه قبل تلك، لا حرج عليك بأيهما بدأت، حسبما تيسر لك، لكن بشرط أن يؤؤل الغرس في النهاية إلى تربة المسجد، إذ يجب أن تعلم أن رباط المسجد هو غاية الوسائل ووسيلة الغايات، وأن المجالس إنما هي سقاؤه. ولطالما تباهت التنظيمات والحركات بكثرة خلاياها وأعدادها، وليس لها من رباط المسجد نصيب، فلا يمضي من الزمن إلا قليل حتى ترتد الجموع على أدبارها، وتتساقط لقىً مهملاً بين المقاهي والملاهي! المسجد هو أساس عَدِّكَ وإعدادك، فاغرس برياضه (رُبُطاً)، واجعل منها نسل دعوتك، ثم اجعل جلسة القرآن لها مدرسة، تغذيها وتنميها، وابن على ذلك في منهج التبصير بحقائق هذا الدين؛ بعثاً وتجديداً! فبذلك – وبذلك فقط – تبنى الصفوف، لمن رام الدعوة إلى الله على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

السقي والتجذير مصطلحان زراعيان استعرناهما للتمثيل والتقريب، وإنما ذلك ما عبرنا عنه من قبل في كتابنا (التوحيد والوساطة في التربية الدعوية) بــ (الأرقمية) و (المنبرية)، فــ (الأرقمية): نسبة إلى مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته، بدار الأرقم بن أبي الأرقم، قبل الهجرة، (والمنبرية) : نسبة إلى منهجه صلى الله عليه وسلم الخطابي، الذي عرف من على منبر المدينة، والحقيقة أن المنبرية والأرقمية منهج متكامل، لا يستغني أحدهما عن الآخر؛ فالمنبرية هو ما بدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم أول الأمر، لما صعد الصفا وخطب منذراً. فمن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت

{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}

[الشعراء:214].

خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحا! فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه،

فقال: "أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟" قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد!" قال أبو لهب: تبّاً لك. ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، 

ثم استمر هذا المنهج في المسلمين بعد الهجرة، إذ صار منبره صلى الله عليه وسلم بمسجد المدينة رمزاً لمنهج السقي المروحي، داخل المسجد وخارجه. وأما الأرقمية فقد كانت في المرحلة المكية تحتضن كل من أجاب الخطاب المنبري، فتجذره بتربة المجالس بدار الأرقم، أو بشعاب مكة وجبالها، فتلك المجالس هي التي آلت بعد الهجرة إلى المسجد؛ مجالسَ للذكر وصلوات، ذلك المنهاج النبوي الحق إن شاء الله، وإنما الموفق من وفقه الله.

 

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ تبليغ الرسالات

  • نور الرسالة

    فريق عمل الموقع

    ﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ

    24/12/2024 15
  • ما علاقة الدين بموضوع الأخلاق؟

    محب بن مسكين

    التوحيد الذي يبرر معنى الأخلاق هو الدين. الوحيد الذي يعطي للأخلاق صبغتها هو الدين. والأخلاق لا يمكن فهمها إلا في إطار التكليف الإلهي. والدين هو نبض الوجود ال

    28/12/2018 2839
  • الدعوة إلى القرآن

    مجدي الهلال

    ومع أهمية وجود المحاضن التربوية للإشراف على عملية التغيير القرآني للأفراد، إلا أنه ينبغي أن يكون لها دور آخر في

    10/07/2023 441
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day