تحديد أهداف المجلس من التدارس
- الضابط الثاني عشر: تحديد أهداف المجلس من التدارس، والتذكير بذلك من حين لآخر. وهو تحصيل التزكية للقلب بكتاب الله تعالى، والتخلق بأخلاق القرآن العظيم، من خلال مسالك التَّدَبُّر والتفكر. وههنا لابد من التنبيه على قاعدة منهجية هامة جدا لهذا الأمر! وهي الحذَرُ من استغراق الوقت كله في التفسير، وتتبع أقوال المفسرين من دقائق اللغات والبلاغة والإعراب، وتفاصيل الخلافات الكلامية، وتفاريع الأحكام الفقهية ...إلخ. فكل ذلك وما في معناه إنما يحتاجه أهل الاختصاص. وأما الغرض مما نحن فيه فإنما هو تحصيل الحِكْمَةِ من الآية، وإتاحة الفرصة للتدبر والتفكر؛ للوصول إلى الهُدَى المنهاجي، أي ما تضمنته الآية من الهُدَى الرباني، ومن طرائق التخلق به، وكل ما من شأنه أن تنتج عنه التزكية التي هي غاية الوظائف النبوية، والتي من أجلها أساسا أنزل الله هذا القرآن في نهاية المطاف! مما اطرد بيانه في كتاب الله بيانا واضحا، في كل سياق وكل مناسبة. قال جل ثناؤه:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا. وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ)
(الشورى:52-53).
ولهذا فإنه يكفي في ذلك كله تحصيل المعنى العام للآية، وما أجمع عليه المفسرون منها، أو ما عليه جمهورهم. فلا يؤخذ من المعاني اللغوية والنحوية وكذا الفقهية؛ إلا ما لابد منه لفهم المعنى الكلي للآية. فلا ينبغي أن ننسى أن غاية (مجالس القرآن) إنما هو التربية والتزكية، أي تحصيل (الربَّانِيَّة) لا تحصيل (العالِمِيَّة). ويكفيك من العلم لتحصيل الربانية ما يعرفك بالله رب العالمين! وأما (العالِمِيَّةُ) فلها سُبُلُها المعروفة عند أهلها. وإنما هذا برنامج مقصود به سَوادُ الأمة وجمهورها العام. لا خصوص طلبة العلوم الشرعية. والآية الضابطة لهذا المنهاج هي قول الله تعالى، الذي تكرر أربع مرات في سورة القمر:
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)؟!
(القمر:17)
فمن أراد القرآنَ للذِّكْرِ والذكرى والتربية والتزكية؛ فإنما سبيله اليُسْرُ والبساطة، ويكفيه من الأدوات اللغوية الأمرُ العام المُشْتَرَك؛ لأنما المقصود هو وضعُ القلب على هدى الآية واتجاهها الصحيح. فإذا صَحَّ له الاتجاه فقَدْ أُذِنَ له آنئذ بالتدبر والتفكر.
قال جل وعلا:
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)
(محمد:24)،
وقال سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)
(سبا:46).
فالهدى القرآني أو (الهدى المنهاجي)(1) من كل آية يتضمن رسالة أو عدة رسالات، هي خلاصة المقاصد التربوية، ومكنـز التعاليم الربانية، التي تبني الشخصية الإيمانية للإنسان المسلم، وتسلك به مسالكَ العبدية لله رب العالمين في نفسه ومجتمعه، والتي من أجلها نزلت تلك الآية، والتي هي أساس التزكية وحكمة التخلق بالقرآن العظيم. فوجب على المسير للمجلس إذن أن يوجه الحضور إلى محاولة استنباط هذه الحقائق الإيمانية، وإلى محاولة تَلَقِّي تلك الرسالات الربانية، ومحاولة تبين منازلها في النفس، ومواقعها في المجتمع وجودا وعدما. ثم التساؤل عن كيفية التحقق منها تخلقا، ومعرفة شروط ذلك وأسبابه، وكذا موانعه ومعوقاته. ثم الشروع في علاج لطائف النفس في ضوء ذلك الهدى، وإعادة بناء عمرانها على موازينه لَبِنَةً لَبِنَةً. ومن هنا وجب على المتدارسين أن يعتمدوا من كتب التفسير ما هو متضمن لبيان رسالات الهدى من كل آية؛ قصد تيسير عملية التدبر والتلقي على المبتدئين.(2)
ومن القواعد التربوية المحصِّنةِ للمجلس من آفة تبذير الوقت، أو إغراقه بدراسة الوسائل دون الغايات، أو بالخلافيات والجدل العقيم: الاعتمادُ على توزيعٍ متوازنٍ للوقت بين سائر مواد المجلس، على حسب أهميتها، بدءا من التلاوة حتى التدارس فالتدبر؛ بصورة تعطي لكل مادةٍ حقَّها دون أن تطغى على غيرها. ويمكن أن يكون ذلك بصور شتى. فالعبرة إنما هي بالنتيجة. وهي الوصول بالقلوب إلى الدخول الذاتي في جمال القرآن تدارسا وتدبرا؛ لتحصيل التزكية. ومن هنا وجب أن يتحلى الْمُسَيِّرُ بالمرونة - وبالدقة أيضا - ويوازن بين الوسائل والغايات في تنظيم الوقت؛ لتحقيق هذا الهدف النبيل!
المراجع
- "الهدى المنهاجي" هو اصطلاح أستاذنا العلامة الدكتور الشاهد البوشيخي – حفظه الله وبارك في عمره - رائد هذا المنهج في تفسير كتاب الله ومدارسته.
- التفاسير التي جعل أصحابها هذه المقاصد أساس صناعتها قليلة جدا. منها كتاب "في ظلال القرآن" للأستاذ سيد قطب رحمه الله، لكن ليس من السهل الوصول إلى مقاصده المنهاجية؛ بسبب ما طبع الكتاب من لغة أدبية عالية جدا، ولكون تلك المقاصد بقيت مندمجة في المعاني التفسيرية، ولم يستخرجها صاحبها - رحمه الله - في رسالات واضحة مستقلة؛ على سبيل التعليم والتقريب. فكأنه تفسير النخبة العالمة والمثقفة. ويلحق به كتاب "التفسير الحديث" لمحمد عِزَّتْ دَرْوَزَة، فهذا أيضا مما نحا فيه صاحبه منحى استنباط الفقه الدعوي المنهاجي لبناء الأمة؛ ولذلك جعل مدارسته للسور مرتبة على حسب تاريخ النـزول؛ قَصْدَ اكتشاف المراحل الدعوية ولبناتها التربوية.
والمادة المنهاجية موجودة – على الإجمال - في أغلب كتب التفسير القديمة والحديثة، لكنها مغلفة بالقضايا التفسيرية واللغوية والبلاغية، وغيرها من قضايا علوم القرآن، التي حفلت بها كتب التفسير. وإنما القدير على استخراجها هو من له دراية بتلك العلوم. ومن هنا قدمنا نماذج - في القسم الثاني من هذا الكتاب - لمدارسات تهدف أساسا إلى تجريد "رسالات الهدى المنهاجي" بشكل مدرسي مبسط؛ للإسهام في خدمة "مجالس القرآن"؛ ببيان الصورة التطبيقية للتدارس. ويحسن أن يعتمد المتدارسون لكتاب الله تفسيرا مختصَراً، مما تلقته الأمة بالقبول، كمختصر تفسير الطبري، أو مختصر تفسير ابن كثير، أو غيرهما. والغاية من اعتماد المختصرات - دون المطوَّلات من كتب التفسير - هو الحصول على المعنى الأساسي للآيات دون الغرق في التفاصيل الكثيرة؛ حتى لا تتضخم العملية التفسيرية بالمجلس على حساب التدارس والتدبر.