تمهيد: في مفهوم (الجمالية ) بين الإسلام والفلسفة الغربية
(الجمالية) أو (علم الجمال) مصطلح يستعمل في الفكر المعاصر؛ للدلالة على تخصص من تخصصات العلوم الإنسانية، التي تُعْنَى بدراسة (الجمال) من حيث هو (مفهوم) في الوجود، ومن حيث هو (تجربة) فنية في الحياة الإنسانية.
(فالجمالية) إذن؛ علم يبحث في معنى (الجمال) من حيث مفهومه، وماهيته، ومقاييسه، ومقاصده. (والجمالية) في الشيء تَعْنِي أن (الجمال) فيه حقيقة جوهرية، وغاية مقصدية، فما وُجِدَ إلا ليكون جميلاً! وعلى هذا المعنى انبنت سائر (الفنون الجميلة) بشتى أشكالها التعبيرية والتشكيلية.
ومصطلح (الجمالية) أو (علم الجمال) ترجمة لكلمة (استطيقا). وهي كلمة ولدت في رحم الفلسفة الغربية، ومن الناحية الاصطلاحية، خلال القرن الثامن عشر الثامن عشر الميلادي. فقد كان الفيلسوف: (باومجارتن) سنة 1750م. أول من سك هذا اللفظ. ثم انتقل استعماله إلى سائر الثقافات والعلوم الإنسانية كالأدب والفن.
إلا أن (الجمالية) من حيث هي مفهوم قديمة قدم الإنسان نفسه. وصاحبت الحضارات البشرية كلها بدون استثناء، واتخذت لها طابعاً مع حضارة، كما كانت لها تجليات خاصة، ومتميزة، مع كل تجربة إنسانية مختلفة. ولم تكن الحضارة الإسلامية بدعاً من الحضارات الإنسانية جملة. ذلك أن (الجمال) في الإسلام أصل أصيل، سواء من حيث هو تجربة وجدانية إنسانية. ومن هنا كان تفاعل الإنسان المسلم مع قيم الجمال ممتداً من مجال العبادة إلى مجال العادة، ومن كتاب الله المسطور إلى كتاب الله المنظور! مما خلد روائع من الأدب والفن، التي أنتجها الوجدان الإسلامي في قراءته الراقية للكونَيْن، وسياحته الرائعة في العالَمَيْنِ: عالم الغيب وعالم الشهادة!
ولقد قاد الجهل بالتراث الإسلامي أو العمى الصليبي بعضَ فلاسفة الغرب إلى حصر التجربة الجمالية الإسلامية في مجال (الإدراك العقلي)، دون الإدراك الوجداني العاطفي؛ واتهم التجربة الإسلامية بالفقر الفني والجمالي! فأقل ما يقال عن مثل هذا الاتهام أن صاحبه جاهل بحقيقة الإسلام وقيمه الجمالية من جهة، وبتجربة الأمة الإسلامية من جهة أخرى، أعني على المستوى الجمالي، في كل تجلياتها العربية وغير العربية: فارسيةٌ وهنديةً وتركيةً ثم مَالَوِيَّةً!
ولقد انبرى الفيلسوف الفرنسي المعاصر: (إتيان سوريو) فيلسوف (الجمالية)، وأستاذ علم الجمال في جامعة السربون بباريس؛ للدفاع عن هذه الحقيقة، لكنه مع ذلك لم يكن موفقاً كل التوفيق؛ بسبب نقص المعطيات عنده عن قيم الجمال في الإسلام، وعن تجربة المسلمين في ذلك المجال. يقول محيلاً على اتهامات (بلزاك) في كتابه (الابن الملعوت): (لطالما قيل – وعلى غير وجهٍ من حق – إن الفن العربي قد كان فناً إدراكياً، لا يتوجه إلا إلى الفكر النظري المحض، وليست له أيه قدرة على الإثارة العاطفية!). ثم يستطرد بعد ذلك مدافعاً عن الجمالية الإسلامية، بشواهد من جمالية العمران وفن العمارة بالبلاد العربية والإسلامية، لكن – مع الأسف – بتحليلات هي أقرب إلى الخرافة منها إلى المقاييس العلمية للجمال!
يقول: (إن هذا الرأي هو خاطئ تماماً! والحقيقة هي ما ذهب إليه من قبل (غايي:Gayet ) عندما تحدث في كتابه: "الفن العربي" عن المشاعر التي تثيرها – من وجهة نظر الجمالية العربية – المعطيات الهندسية لذلك الفن بتفاصيلها وأشكالها. ولذا فهو يقول بأن الدوائر الهندسية إذا كانت زواياها المتعددة مزدوجة، فإنها "توقظ في النفس مشاعر عميقة مطبوعة بطابع الصفاء العذب"، أما إذا كان عدد زواياها مفرداً فإنها تبعث على "الحزن المبهم والقلق والاضطراب"، ويقول أيضا: "إن الصورة المتكونة من الجمع بين المربعات والمثمنات تبعث على فكرة السكون الأبدي، أما تلك تنبثق من الأشكال ذات الزوايا التسع فإنها توقظ الإحساس بسر مبهم مضطرب!") كذا.. والعجيب حقاً هو كيف فهم (غايي) أن هذا التفسير الغريب للأشكال الهندسية هو (من وجهة نظر الجمالية العربية)؟ ثم كيف قبل منه الأستاذ (سوريو) هذا الهذيان؟ ونقله على سبيل التبني في كتابه! لقد كان الأولى بغايي هذا أن يعرض أحواله المترددة ما يبن (الصفاء العذب، والحزن المبهم، والقلق، والاضطراب) على طبيب نفسي؛ خير له وللعلم من أن يفسر به أشكالاً هندسية في صومعة، أو قبة مسجد، أو زوايا قلعة! لقد ضل كثير من مؤرخي الجمالية الغربيين الطريقَ إلى معالم الجمال الحق في الإسلام، وأخطؤوا مواطن علم الجمال في التجربة الإنسانية الإسلامية! فأنكرها بعضهم، وبقي البعض الآخر أسير الجدران والأسوار! يحاول فك رموز النقوش وأشكال الزخارف، كما يحاول العالم الأركيولوجي فك رموز بدائية، في قطعة حجرية من عصور ما قبل التاريخ!
إن الجمالية الإسلامية تنبع أولاً من حقائق الإيمان، إذْ تَشَكَّلَ الوجدانُ الإنساني بما تلقاه من أنوار عن رب العالمين الرحمن الرحيم، وما انخرط فيه بعد ذلك؛ سيراً إلى الله تعالى عبر أشواق الروح، مبدعاً – باتباع تعاليم نبيه – أروع ألوان التعبير الجمالي من سائر أشكال العبادات والمعاملات والعلاقات! انطللاقا من حركته التعبيدية في جمالية الصوات ولوحاتها الحية الراقية! وما يَنْظِمُهَا من عمران روحي ومادي، إلى هندسة المدائن الإسلامية بما تحمله من قيم روحية سامية، وقيم حضارية متميزة جداً. إلى سائر النشاط الإنسان الذي أبدعه المسلمون في علاقتهم بربهم وعلاقتهم بأنفسهم وبغيرهم، إلى علاقتهم بالأشياء المحيطة بهم، بدءاً بالمسخَّرات من الممتلكات والحيوان، إلى المحيط الكوني الفسيح، الممتد من عالم الشهادة حولهم إلى عالم الغيب فوقهم! كل ذلك تفاعل معه المسلم؛ فأنتج أروع الأدبيات التعبيرية والرمزية، مما لا تزال تباريحه المشوقة بالمحبة، من الترتيل إلى التشكيل؛ تفيض على العالَم بالجمال والجلال أبداً!
إن العمارة الإسلامية – رغم ثرائها الجمالي الرفيع – هي آخر ما ينبغي الاشتغال به لمن أراد أن يدرس الجمالية الإسلامية في مصادرها الأولى! لأن حصون المدائن وجدرانها إنما هس التجليات المادية المعبرة عن أشواق الروح، الفياضة عبر القباب والمآذن؛ مندفعة بقوة نحو السماء! وإنما هي صورة التعبير الرمزي عن معاني الاحتضان العاطفي وقيم الأخلاق الاجتماعية والحنان الرَّيان! بما امتازت به من حياء، وتستر، وانحناءات، تتلوى أضلاعها الخفاقة بالمحبة بين الدروب! تسلك بالرجال والنساء مسالك الحشمة الرقيقة والوقار العالي، إلى المساجد وإلى الغرفات والشرفات الكاشفة الساترة! ثم تنشر أسرارها نقوشاً وزخرفة تتبادل الأدوار مع أحرف الخط العربي بشتى أشكاله، في كلمات ناطقة حيناً، وناظرة أحياناً أخرى! كلها تتدلى مثل العناقيد من بين الأقواس، تستقبل مواجيد المحبين وترد سلام المتبتلين، لتتوحد معهم في صلاة أبدية خالدة!
ولقد دَّبَّجَ المسلمون في مصنقات المحبة والسلام تباريحَ الأشواق أني مرساها! ووصفوا مقامات النور كيف مجراها! ورسموا كلمات الجمال بما لا قِبَلَ به لأحد من العالمين!
وكأنما الفرق في (الجمالية) بين مفهومَيْها الغربي والإسلامي كالفرق بين الطبيعة
والتمثال! أو بين الحقيقة والخيال! ولم تكن الصورة التي يبدعها المسلم ثابتة قارة بأكلها البِلَى في متحف (اللوفر) أو غيره من متاحف العالم، ولكنها صورة حية يشكلها بإبداعه اليومي بين ركوع وسجود، وطواف وسعي، أو بين صوم وتبتل، وانقطاع يصله كلياً بالملأ الأعلى! ثم مواجيد يتنفسها بعد ذلك كلمات وكتابات ذات صور؛ الجمالُ فيها له روح! صور لا تبلى أبد الزمان! {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطَئهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29)
تلك صورهم الحية! فأين منها بسمة (الجو كاندا) المصطنعة الشاحبة؟ أو وجوه (بيكاسو) المتداخلة المتنافرة! هذه صور الجمال في الأدبيات الإسلامية، ما تزال تتجدد عبر التاريخ أبداً، ولا يزال القارئ لها في كل مكان يشارك بمخيلته في إبداع الأشكال كما هو يريد! بحرية تتحدى آخر الصيحات في عالم الرسم والتشكيل! وليس عندهم صور ميتة يفرضها فنان على الناس فتستبعد مُخَيِّلَةَ الأجيال وتقتل إبداعهم! ومن هنا توجه الفن الإسلامي حضاريا – في عالم الغالب – إلى الإبداع ضمن جمالية (التجريد). والتجريد في الحقيقة إنما هو لغة الروح, وريشة الوجدان. يقول إتيان سوريو: (والحقيقة التي لا بد نت التنويه بها كذلك، هي أن الروحية الإسلامية تحترس على الأخص من مخاطر الفن التجسيمي، وتجد لها ضمانات كبرى في استعمال الفن التجريدي. من هنا، ومن هذه الوجهة خصوصاً، يجب تفسير الوضع الجمالي للفن الإسلامي من الناحية التجريدية. أضف إلى ذلك أن الفن التجريدي هو بالضبط الفن الذي يستجيب في العالم العربي لما تقتضيه الحاجة الجمالية اقتضاء شديد ودقيقاً.)
نعم! إن لغة التجريد في الفن الإسلامي هي التي تصنع حركة الحياة الفعلية في المجتمع، حيث تتفتق جماليتُها المتجددة؛ سلوكاً حضارياً راقياً، وعلاقات اجتماعية مفعمة بالود والمحبة والسلام، تتضافر جميعها في نسيج عمراني يرقى إلى درجة المثال! وذلك بما يفيض من وجدان الإنسان المسلم من تباريح الإيمان وأشواق الروح!
وما قتل الفن الغربي شيء مثل الولع بسجن الإبداع في الصور الجامدة الثابتة، ولو في حركتها الوهمية الاصطناعية! وعليه؛ فإن الوضع الفني في أوروبا قد وصل فعلاً إلى الباب المسدود! يقول فيلسوف الجمالية المعاصر: (إذا أخذنا الفن أداة للحكم على الحاجات الجمالية لوقتنا الحاضر؛ نجدها قد أصييب بتغييرات جذرية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم. فالزائر الذي يتجول في أرجاء متحف للفن الحديث؛ لو انتقل من قاعة تضم لوحات انطباعية، إلى قاعة أخرى تضم لوحات حديثة من الفن التجريدي أو التجسيمي؛ لاجتاحه – ولا ريب – شعور بالانتقال من عالم إلى عالم آخر، وإحساس بالغربة عميق! ولتقابل المسألة هنا بكل حدتها، فلا نتردد بالقول بأن هذا الزائر نفسه (..) قد تسول له نفسه أن يتحدث عن خط انحداري ومسيرة تقهقرية في الفن!). إلى أن يقول – بعد وصف مآل بعض أنواع الفن الأخرى – بحدة نقدية شديدة: ( ولا شك في أن من يراقب هذا التبديل المفاجئ سيجد نفسه مدفوعاً إلى القول بأن ما يسمعه ويشاهده ليس إلا رجعة إلى حالة من البدائية والتوحش!).
ومن عرف منطلقات الجمالية في الفكر الغربي أسباب ذلك؛ لأن معرفة النتائج عموماً رهينة بمعرفة المقدمات. فلا بأس إذن من إعطاء صورة تاريخية، مختصرة جداً، لأهم المحطات المفنهومية للجمالية في الفلسفة والفن الغربيين؛ عسى أن ندرك الفروق الجوهرية بينها وبين حقيقتها في مفهومها الإسلامي، عند عرض صور من معالمه الكبرى – بهذا الكتاب – كما تفيض بها مصادر الدين والتدين في الإسلام.