تناقض أهل التأويل


د. عمر الأشقر

الذين يوجبون تأويل ما أثبته الله لنفسه من الصفات، ويصرفونها عن ظاهرها يرون أن تأويل تلك النصوص لا يعلمه أحد إلا الله تبارك وتعالى.

الذين يوجبون تأويل ما أثبته الله لنفسه من الصفات، ويصرفونها عن ظاهرها يرون أن تأويل تلك النصوص لا يعلمه أحد إلا الله تبارك وتعالى.

 

وهم يتناقضون هنا تناقضا بينا، فإذا كانوا لا يعلمون معاني نصوص الصفات، فكيف يدعون إلى تأويلها، إن المنطق السليم يلزمهم بأن لا يبحثوا لها عن تأويل موافق لظاهرها أو مخالف له، لأنهم لا يعلمون لها معنى، أو له معنى غير مفهوم لهم، فكان الواجب عليهم أن يقولوا رضينا بالجهل بهذه النصوص سبيلا ولا نثبت ظاهرا ولا ننفيه ولا نؤوله.

 

أمّا أن يقولوا يجب علينا صرف ألفاظ النصوص من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل، فهذا تناقض مخالف لدعواهم أنه لا أحد يفقه معناها.

 

ثم هم يتناقضون مرة أخرى عندما يصرفون هذه النصوص إلى نظير ما نفوه من معاني، فهم يؤولون يد الله بقدرته، فإذا كان هذا التأويل حقّا ممكنا كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلا ممتنعا كان الثابت مثله.

 

 

هل الصفات من المتشابه

 

الإحكام والتشابه قد يكون عامّا، فيوصف القرآن كله بالإحكام، كما يوصف كله بالتشابه، وقد يكون خاصا، فيكون بعض آيات الكتاب محكما وبعضها متشابها.

 

وقد جلَّى شيخ الإسلام ابن تيمية هذه المسالة، وشرحها شرحا وافيا [راجع مجموع فتاوى شيخ الإسلام:3\59-66]، فالإحكام العام جاء في مثل قوله تعالى:

{الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت}

فأخبر هنا أنه تبارك وتعالى أحكم جميع آيات الكتاب.

 

وأما التشابه العام ففي مثل قوله تعالى:

{الله نزل أحسن الحديث كتاب متشابها مثاني}

فأخبر أن القرآن كله متشابه.

 

وبين شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أن المراد بالإحكام العام الإتقان بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره، و قد سمى الحق القرآن بأنه حكيم {الر تلك آيات الكتاب الحكيم} والحكيم بمعنى الحاكم، والله جعل القرآن حكما يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ومن ذلك حكمه بين بني إسرائيل في أكثر ما اختلفوا فيه.

 

وبين أن التشابه العام ضد الاختلاف المنفي عن القرآن في قوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وهو الاختلاف المذكور في قوله: {وإنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك}.

 

ومعنى التشابه الذي يوصف به القرآن كله تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضا فإذا أمر القرآن بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به أو بنظيره أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه أو عن نظيره أو ملزوماته، إذا لم يكن هناك نسخ.

 

وكذلك في الأخبار، لا يخبر بنقيض ما قرره، وعلى ذلك فالتشابه التوافق والتماثل، وهو يقابل الاختلاف والتضاد.

 

والتشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضا، ويعضد بعضها بعضا، ويناسب بعضها بعضا، ويشهد بعضها لبعض، كان الكلام متشابها بخلاف الكلام الذي يضاد بعضه بعضا.

 

فالتشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، ثم تكلم شيخ الإسلام على الإحكام الخاص والتشابه الخاص، وبين أن الإحكام الخاص ضد التشابه الخاص.

 

ثم بين أن المراد بالتشابه الخاص مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو، أو مثله، وليس كذلك.

 

والإحكام الخاص هو الفصل بينهما، بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر، وهذا التشابه إنما يكون بقدر مشترك مع وجود الفال بينهما.

 

وبين رحمه الله تعالى: أن من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه هنا من الأمور النسبية الإضافية، يشتبه على بعض الناس دون بعض، وأهل العلم والإيمان عندهم من العلم ما يزيل هذا الاشتباه.

 

ومن هذا الباب الشبه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق والباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل.

 

وضرب شيخ الإسلام أمثلة كثيرة على المتشابه الذي اشتبه على كثير من الناس وعرف أهل العلم الفصل بين الحق والباطل فيه.

 

فقد اشتبه على بعض الناس وجود الرب بوجود العبد ووجود كل موجود، وساقهم هذا الاشتباه إلى عدم التفريق بين وجود المخلوق ووجود الخالق، حتى زعم أهل وحدة الوجود أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن المماثلة من الخالق بالمخلوق.

 

والسر في الخلل الذي أصاب هؤلاء أنهم رأوا الموجودات تشترك في مسمى الوجود، فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين، والواحد بالنوع.

 

وظن آخرون أنه إذا قيل إن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فإنه يلزم من ذلك التشبيه والتركيب، وقالوا: لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء على اختلاف أصنافهم إلى أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث.

 

وأهل العلم يعلمون أن وجود الخالق يخصه، ووجود المخلوقات يخصها، فهي وإن شاركت الخالق في مسمى الوجود، لكن هناك من الفروق ما يزيل التشابه، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام، لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الذي يبين ما بينهما من الفصل والافتراق.

 

وإذا تمسك النصراني بقوله تعالى:

{إنا نحن نزلنا الذكر}

  مستدلاً بقوله: {نحن} على تعدد الآلهة، رد عليهم أهل العلم بالمحكم في قوله: {وإلهكم إله واحد} وبذلك يزول الاشتباه، وما ذكره الحق في صيغة الجمع فهو يعظم به نفسه تبارك وتعالى، ومن ذلك ما أخبر به الحق تبارك وتعالى مما في الجنّة من ماء ولبن وخمر وعنب وعسل ونحو ذلك فإنها وإن شاركت ما في الدنيا من أسماء ومعاني، إلا أن حقيقة هذه الخيرات في الجنات لا تعرف، ويكفي أن الرب أخبر أنها من نعيم الجنّة لنفرق بينها وبين ما نشاهده في الدنيا مما يتسمى بالأسماء نفسها.

 

ومن ذلك أسماء الباري – جل وعلا- وصفاته التي اختص بها، فإن معانيها معروفة معلومة، وقد يشتبه على بعض الناس هذه الصفات بصفات الخلق، فيظنون أن صفاتهم كصفاته وهؤلاء المشبهة، وفريق آخر يظن أنه يلزم من إثبات هذه الصفات التشبيه، ولذلك يحتاج إلى تأويلها أو نفيها تنزيهاً للباري جل وعلا.

 

وأهل العلم يعلمون الفارق الذي يزول به الاشتباه، فصفات الباري تخصه وتناسب جلاله وكماله، وصفات المخلوقات تناسب عجزهم وقصورهم، أما حقيقة صفات الباري على ما هي عليه فإننا لا نعرفها، فالحق – تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء.

السابق التالى

مقالات مرتبطة بـ تناقض أهل التأويل

  • التأويل فرع عن التشبيه

    أبو رملة محمد المنصور

    التأويل فرع عن التشبيه وهنا مسألة يجب التنبُّه لها وهي أن الذي يلجأ إلى التأويل في صفات الله تعالى لا يفعل ذلك

    26/06/2010 4382
  • ادعاء أهل التأويل أنهم يسيرون على خطا علماء الأصول

    د. عمر الأشقر

    أن تأويلهم للنصوص لا يرتضيه أهل الفقه والأصول، لأن هؤلاء وضعوا للتـأويل شروطا حتى يصح التأويل عندهم، فإذا فقدت هذه الشروط أو فقد شرط منها كان هذا التأويل فاسدا،

    13/01/2019 1488
  • دعوى باطلة

    د. عمر الأشقر

    أجهد الذين خالفوا منهج الكتاب والسنة الذي فقهه السلف الصالح في أسماء الله وصفاته أنفسهم في ليّ أعناق النصوص ، ليصرفوها عن ظاهرها بشتى أنواع التمحلات ، وسموا عمل

    08/01/2019 1348
معرفة الله | علم وعَملIt's a beautiful day