حديث حساب المقاصد يوم القيامة
أما حديث حساب المقاصد يوم القيامة، فله قصة أخرى، لا تكاد تطيقها النفس رَهَباً! فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ:
(إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ! قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ؛ فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ! وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ! ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ!)
ومن ذا منا يمحص قلبه تمحيصا على ميزان جوابه - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله:
(الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ! فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ!)
ومن منا يصفي أعمالَه وأقوالَه بمصفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ!)
ألا ما أشد استسهالنا لمثل هذه النصوص الشديدة! ألا ما أشد استهتارنا بمصيرنا الأخروي!
ولقد رأيت يقينا في كتاب الله، أن الطائفة المحرومة من ولاية الله وسنده العالي لا تصل أبداً! ورأيت يقينا أنه لا سبيل إلى التحقق بولايته تعالى
إلا بالإخلاص!
(أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!)
.. (أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ!)
إنه لا بد قبل أي خطوة - في طريق الدين والدعوة - من تمحيص هذا المعنى العظيم في القلب! لا بد من تحقيقٍ دقيق مع الذات، ومحاسبة للنفس
صارمة! لا بد من استبطان السؤال: لماذا أفعل ما أفعل؟ ولمن؟ إن المجازفة بالهروب من تمحيص الجواب وتدقيقه،
والفرار من تشريح النفس بمبضعه؛ لهو تعريض للعمر كله إلى الدمار والخسار..! ولهو مقامرة بالمصير الأخروي لصاحبه! وأي ندم ينفعه يوم القيامة
إذا نُشِرَتْ الصحف، وانكشفت الحقائق على وجهها؟
أما المخلصون في دينهم ودعوتهم، فإنما هم الربانيون الفقراء إلى الله، المتذللون بين يديه تعالى، الذي يتبرؤون من كل أنانية تنظيمية، ومن كل حول حزبي، ومن كل قوة طائفية، أذلة على المؤمنين كل المؤمنين! ولسان حالهم يردد في كل خطوة يخطونها: (أن لا حول ولا قوة إلا بالله!).. وإنني لا أجد أَجَلَّ من وصف الله تعالى لهم في كتابه الحكيم، إذ قال سبحانه:
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ!)
(المؤمنون: 60).
إن الإخلاص هو الدين، وإن الإخلاص هو الدعوة! وما فقدَ عبدٌ الإخلاص فيهما إلا فقدَ الدين والدعوة جميعاً!
إن الإخلاص أحبتي لا يتحقق لمؤمن إلا إذا كان عبداً أخروياً! ولا يكون المؤمن الحق إلا عبداً أخرويا! وما أشد هذا السؤال الإنكاري الرهيب الرعيب!
إذ يطرق جدران القلوب بكلمات الله:
(أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ!)
(التوبة: 38)
وينتصب البيان الرباني بقوة، يرفع راية النذارة للعالمين:
(اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ!)
(الحديد: 20).
أم أن هناك عقيدة أخرى غير هذه؟ فما بالنا إذن نتردد ونتلجلج؟ ما بالنا نبحث لأهوائنا عن مسالك غير سالكة؟
ونرضى بالسير في مَحَالِكِ الظلام! كيف؟ وهذا نور الفرقان يتدفق في الآفاق!
إن العاملين المخلصين لا يتحدثون عن أنفسهم، ولا عن أحزابهم وجماعاتهم، ولا يمجدون ألقابهم ولا أنصابهم! وإنما يتحدثون عن دين الله،
ويمجدون كتاب الله! عابدون لله في مساجدهم، عابدون لله في سلوكهم، عابدون لله في دعوتهم، عابدون لله في خطاباتهم، عابدون لله في وظائفهم، عابدون لله في معاشهم جميعاً! ما حَلُّوا بمكان إلا اتخذوه محراباً!
إنما المخلصون هم الذين يحضرون في المغارم ويغيبون عند المغانم!.. ولا يتزاحمون – باسم العمل الإسلامي - على المكاسب والمراتب والرواتب!
إنهم يعطون ولا يأخذون، وينفقون ولا يُغَرِّمُونَ!..
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ!)
(الأنعام: 90)
ولقد شاهدت يقينا أن لا طريق إلى الله إلا طريق الإخلاص! وأن ليس لشهادة: "أن لا إله إلا الله" – التي هي عنوان الإسلام - من معنى غير الإخلاص!
وشاهدت يقينا أن كل ما وقع في شَرَكِ "أنا" و"نحن"؛ فَقَدَ حقيقة الإخلاص! وإنَّ طائفةً ارتفعت عنها يد الله ورعايته
ما كان لها أن تصل، ولا أن تفوز أبداً!
ولقد رأيت كلمات القرآن الثقيلة، ترتفع فوق قلوبنا المغرورة، منذرة بعاصفة الآخرة الكبرى! العاصفة الكاشفة الناسفة!
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا!)
(الفرقان: 23)