حول مفهوم التدبر
أولا: لا بد من بيان أن التدبر هو غير التفسير!
هذا أمر مهم جدا! ونحن نعلم أن بعض العلماء المعاصرين قد استعملهما على سبيل الترادف. وهو غير صحيح!
فالتفسير بيان وشرح للمعنى، بينما التدبر اتعاظ بالمعنى واعتبار به وتذكر! وبينهما فرق كبير..!
إن التفسير من الفَسْرِ، وهو: الكشف والبيان. ولذلك سمي بيان كتاب الله تفسيراً؛ لأنه يكشف اللثام عن معانيه اللغوية والسياقية والشرعية، باستعمال قواعد التفسير المعروفة عند أهله. وهذا هو علم التفسير.
وقد كنا – مع بعض إخواننا - نتدارس كتاب الشيخ العلامة عبد الرحمن حبنكة الميداني رحمه الله: (قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل)؛ فوجدنا أنما هو كتاب في قواعد التفسير! وهو كتاب من العمق والدقة بمكان! لكنه لا تدبر فيه بالمعنى القرآني للكلمة! وإنما هو قواعد منهجية تضبط عمل المفسر لكتاب الله.
أما التدبر - من التفعل – فهو: النظر إلى دُبُرِ الشيء، أي التأمل في دَوَابِرِ الأمور المتوقعة، بمعنى النظر إلى عاقبتها، وما يمكن أن تؤول إليه.
كما يدخل فيه النظر في دوابر الأمور الواقعة من قبل؛ لمعرفة أسبابها ومقدماتها. وهذا لا يوجد في كتب التفسير إلا نادراً. لأنه - في الغالب -
عمل قلبي شخصي، ونظر نفسي لا ينوب فيه أحد عن أحد. وهل يستطيع أحد أن ينوب عن غيره في الخوف والرجاء، أو في الكسل والنشاط؟
هذا ممتنع عقلاً وطبعاً وشرعاً! اللهم إلا ما تعلق بربط الأسباب بمسبباتها – على المستوى الخارجي - وما كان في معناه.
- ثانيا: إن التدبر هو مرحلة ما بعد التفسير..!
أي ما بعد الفهم للآية. لكن الفهم المطلوب لتحصيل التدبر إنما هو الفهم الكلي العام، أو بعبارة أخرى: الفهم البسيط.
ولا يشترط في ذلك تحقيق أقوال المفسرين والغوص في دقائق كتب التفسير! وإلا صار القرآن موجها إلى طائفة محصورة فقط! ومن ثم يمكن لأي شخص
أن يتدبر القرآن بعد التحقق من المعنى المشهور للآية، يقرؤها من أي تفسير أو يسمعها.
إن التدبر حركة نفسية باطنية! تنظر إلى صيرورة النفس في الزمان والمكان، بالنسبة إلى احتمالين: الأول احتمال متابعة القرآن والاستسلام لأحكامه وحكمه. والثاني: عكسه، وهو النكوص والتمرد والجحود والعصيان! ففي كلا الأمرين ينظر المتأمل إلى مآل الحال المحتمل! ذلك هو التدبر! ولذلك كان التدبر لغة – كما ذكرنا - نظراً إلى أدبار الحوادث ونتائجها، وربطا للأسباب بمسبباتها،
فيما وقع وفيما يحتمل أن يقع، على المستوى النفسي والاجتماعي. في الخير والشر سواء! إنه إذن ضرب من المحاسبة للنفس في ضوء القرآن، والمراقبة لأحولها، في صيرورتها الذاتية والاجتماعية.
إن التدبر إذن هو نظر في الآية باعتبارها مبصاراً، يكشف عن أمراض النفس وعللها، ويقوم في الوقت نفسه بتهذيبها وتشذيبها.
أي بتزكيتها وتربيتها.
ومن ثم فإنه يكفي المتدبر للقرآن أن يعلم المعنى العام للآية أو السورة، مما أُثِرَ عن جمهور السلف؛ ليدخل في مسلك التدبر.
ولا شك أن علم العالم وخبرة المفسر تعطيه فرصةً أكبر بكثير؛ لتعميق التدبر في الآيات، والوصول بها إلى أرقى منازل الإيمان!
ولكن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن غير المختصين بالتفسير، أو حتى العوام محجوبون من التدبر!
إن غير العالم لن يعجز عن تدبر آية "الحمد لله رب العالمين" مثلا، والنظر في مآلات فعل الحمد في نفسه وفي المجتمع – على قدر طاقته طبعاً - وكذا مآلات نقيضه من النكران والجحود كيف يكون؟
وإن غير العالم إذا فسرتَ له أن "الفَلَقَ" هو الفجر؛ أمكنه آنئذ أن يتدبر قوله تعالى:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾
(الفلق: 1-2)
وكذلك إذا علم أن "الْجُدَدَ" هي: الطرق والمسالك الجبلية، وأن "الغَرَابِيبَ" هي: الصخور السوداء؛ أمكنه أن ينطلق في آفاق تدبر قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾
(فاطر: 27).
ولقد تعمدت أن أمثل بهذه الكلمات القرآنية الغريبة إلى حد ما، وإلا فجمهور المعجم القرآني
من الميسور المعلوم، بل إن كثيراً منه متداول في اللهجات العامية العربية!
ولم لا يتدبر؟
أليس يرى القارئ للآية المذكورة مثلا، مشهدَ نزول الماء من السماء؟ أليس يرى بعينيه آثار الغيث كلَّ ربيع في الروابي، والجنات، والبساتين، وأشكال الفاكهة والثمار، والجداول، والأنهار، والأطيار، بل في الحياة كلها؟ أليس ينظر إلى الجبال الشاهقة
المنتصبة بهيئتها العظيمة بين يديه؟ أليس يرى مسالكها من بعيد تتلوى حولها خطوطاً حمراء وبيضاء على حسب لون الصخور
والتربة الناسجة لها؟ أليس يعجب من مشهد الحجارة الصماء السوداء، الراسية على قمم هذه الجبال أو تلك؟
فكل من أبصر عظمة الخالق في عظمة المخلوق، واتخذ آثار الصنعة مسلكا يسير به إلى معرفة الله فهو متدبر وهو متفكر!
وهذا أمر ليس حكراً على المفسرين ولا على الجيولوجيين، وإن كان لهؤلاء وأولئك من العلم ما يجعلهم يتفوقون ويسبقون به غيرهم، إذا أخلصوا النظر لله! نعم، ولكن الله قد أتاح لكل ذي عينين، وأذنين، وقلب حي، أن يسلك إلى ربه عبر ما يسر الله له من التدبر والتفكر..
ولربما سبق القنفذُ الفرس! وإنما ذلك على حسب صفاء القلب وإخلاص السير!
وإنني لأنسى كثيراً، لكنني ما نسيت قط حَدَّاداً شابا في قريتي الصغيرة بجنوب المغرب، أواخرَ السبعينات وبداية الثمانينات
من القرن الميلادي الماضي.. وكانت الشيوعية آنئذ تنتشر في المغرب انتشار النار في الهشيم! وقد كان دعاتها عندنا من بعض رجال التعليم وطلبة الجامعات، مع الأسف! وكان أحدهم يجلس إلى ذلك الحداد البسيط يعلمه "حقوق العمال" و"ديكتاتورية البروليتاريا!"
وكأن مطرقته الثقيلة، وما كان يصنعه للفلاحين الصغار من مناجلَ ومَزَابِرَ ومِحَشَّاتٍ، كانت تذكره بشعار الشيوعية الشهير: "المطرقة والمنجل"! فطمع الأحمق أن يضمه إلى صفوف الشيوعيين! حتى إنه سار معه بعيداً فجعل يشرح له عقيدة الإلحاد، وكيف أن "الدين أفيون الشعوب" على حد تعبير كارل ماركس! وكنتُ أنا أيضا وأصحابي نجلس إلى هذا الحداد، فيحدثنا بحديث الشيوعي، ثم نتداول الكلام..
وإنني لا أنسى يوما إذ أخرج من التنور حديدةً مُجَمَّرَةً، قد احْمَرَّ نصلها من النار حتى إنها لتكاد تذوب! ثم انهال عليها بالدق والطرق بقوة، وهو يقول دون أن يرفع رأسه: "يا أخي.. إنهم ينكرون وجود الله ووجود الآخرة!
هكذا يقولون.. أما أنا فإنه لربما أصابتني أحيانا شرارةٌ طائشة من هذا الحديد المجمَّر بين يديَّ؛ فتثقب ثوبي ثم جلدي، فيكون لها من الألم الشديد ما الله به عليم! وإن ذلك ليكفيني ترهيباً وتحذيراً من نار جهنم! وإن صاحبنا الشيوعي كلما حدثني بحديثه قلت في نفسي: هذه مجرد ذرة من نار الدنيا، فترى كيف تكون نار الآخرة! وإنني لأرى بعينيَّ أن نار الدنيا هاته التي بين يديَّ لدليل كاف على وجود نار الآخرة!" كذا قال!
وإنني ما زلت إلى اليوم أعجب من عمق ملاحظة ذلك الحداد الفطري البسيط! وأتساءل في نفسي: أي تفكر هذا وأي تدبر؟
بل أي علم بالله هذا وأي إبصار!.. حَقّاً حَقّاً!
﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ!﴾
(الحج: 46)
هذا ضرب عجيب من التدبر لحقائق القرآن، ونوع من التفكر العميق في الوجود، وهو ممكن لكل الناس، خاصتهم وعامتهم على السواء.
وأنت ترى أن الله – جل جلاله - أمر الكفار بالتدبر لكتابه! كما في قوله تعالى:
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾
(النساء: 82)
وقال سبحانه:
﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
(محمد: 24)
فإذا كان الكافر –
وهو المجرد قطعا من كل قواعد التفسير ومناهجه – مأموراً بالتدبر فالمسلم أولى وأحرى!
إن المسلم - أي مسلم – إنما عليه أن يصطحب مختصراً صغيراً من كتب التفسير، كتفسير الجلالين مثلا، أو أحد مختصرات ابن كثير، أو غيرهما؛ وذلك فقط حتى يضبط بوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج.
لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء! وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله!
أما صناعة التفسير والاستنباط فهذا هو الذي يخص فئة محصورة من الناس وهم أهل الاجتهاد من العلماء، ممن يفتون ويقررون
في القضايا والنوازل. وفي ذلك نزل قوله تعالى:
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾
(النساء: 83)
وقوله سبحانه:
﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾
(التوبة: 122).
فذاك علم الخاصة.
وأما التدبر – بما هو تذكر واعتبار - فهو لعامة المسلمين. قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾
(القمر: 17).
وعليه؛ فالمفسر عالم وفقيه، يقوم ببيان الحقائق القرآنية والأحكام الشرعية، والتصدر للفتوى. بينما المتدبر مجرد متعظ وواعظ. وقد يجمع الله للمرء بين الخيرين. والعالم الحق لا يصح له إلا ذلك! ومن ثم جاز لنا أن نقول: "كُلُّ عالِمٍ أو كلُّ مفسِّرٍ متدبرٌ، وليس كل متدبرٍ مفسِّراً!" فتأمل..!
إن الذي يمتنع عن تدبر القرآن أو ينهى غيره عن ذلك؛ بدعوى أن التدبر أمر خاص بعلماء التفسير، إنما هو جاهل بهذا الفرق الجوهري الكبير بين التفسير والتدبر.. وأخشى أن يكون الشيطان قد لبَّس عليه تلبيساً؛ ليحرمه هو في نفسه من نور القرآن!
أو يجعله أداة لقطع الطريق أمام السائرين إلى الله!
إن التدبر للقرآن مطلوب من العالِم، ومن المهندس، والطبيب، والأستاذ، والفلاح، والحداد، والنجار، والتاجر... إلخ! بل إن التدبر
مطلوب من الكافر الأعجمي، إنجليزيا كان أو فرنسيا أو صينيا، أو ما كان! نعم! نعم! لكن فقط بعد أن تترجم له المعاني العامة للآيات!
بينما التفسير إنما هو صناعة العلماء فقط.