حول مفهوم (الجمال) في الفكر الغربي
لقد اضطرب الفلاسفة منذ العهد اليوناني القديم في تحديد معنى (الجمال) ومقاييسه في الشيء الجميل، واختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً. فقد ثار سقراط على البعد الحسي للجمال، وأرجع كل القيم الجمالية إلى النفس. تقول الدكتورة أميرة مطر: (إن سقراط لا يأبه بالجمال الحسي الذي يتغني به فنانو عصره وشعراؤه؛ قدر اهتمامه بجمال النفس والْخُلُقِ الفاضل، فنجده يتساءل باحثاً عن الجمال: "أيمكن ألا ينطوي هذا الجمال الساحر على نفس تناسبه جمالاً وخيراً؟" وعلى أساس هذا الموقف الأخلاقي اهتم سقراط بالجمال الباطني: نعني جمال النفس الفاضلة.)
بينما حقيقة (الجمال) عند أفلاطون تتحدد في الجمال الإلهي، وإنما النفس برؤيتها لجمال الأرض في شتى صوره تتذكر جمال المثل فتتعلق به. إذْ (بمجرد أن يُلْمَحَ الجمال تتضح رؤية النفس، ويتم التذكر في لحظة سريعة، تنبت في أثرها المعرفة كما ينبثق النور دفعة واحدة. ويصور أفلاطون هذه الرؤية في محاورة المأدبة حين تصيح ديوتيما قائلة: "على أي نحو؛ تظن حماسة الرجل الذي انكشف له الجمال في حقيقته الخالصة النفية غير المتزجمة بهذه الأجسام والألوان الإنسانية، ذلك الذي يرى الجمال الإلهي في وحدة صورته!" ويصفه في محاورة فايدورس بأنه: الجوهر غير ذي اللون ولا الشكل الذي لا يمكن للحس أن يدركه، الجوهر الموجود بالحقيقة، ولا يكون مرئياً إلا لعين النفس! وهو موضوع العلم الحقيقي. ويشغل المكان الذي يسمو على السماء.)
أما عند أفلوطين فقد (عرف أفلوطين الجمال بأنه موضوع محبة النفس؛ لأنه من طبيعتها وهو ينتمي إلى عالم الحقائق العقلية، فهو بطبيعته أقرب إلى النفس منه إلى طبيعة المادة؛ ولذلك فهي ترتاح إليه وتحبه.)
ويبدو أن الفلسفة اليونانية – خاصة الأفلاطونية منها – وَجَّهَتْ الفلسفة الأوروبية الحديثة، فلم تزل – رغم تعمق قضاياها وجدليتها المتطورة – تدور في فلك الفلسفة القديمة بتناص منهجي، وتداخل موضوعي واضحين، فجماع إشكالاتها الجمالية لم تخرج عن تجاذب طرفي الحسية والأخلاقية. يقول ربي هويسمان رئيس تحرير مجلة "علم الجمال" بباريس: (لَمْ يُتَلَفَّظْ – حتى نهاية عصر النهضة – بفكرة حول الفن إلا بالرجوع إلى أفلاطون!). سواء مع كانط (ت: 1804م)، أو مع هيجل (ت: 1831م) الذي هو (أرسطو العصر الحديث) كما يعبرون، والذي تركزت فلسفته حول مفهوم (الروح المطلق) حيث: (إن افتراض الروح المطلق هو محور مذهب هيجل؛ ذلك لأن كل ما في الوجود من ظواهر أو مادية أو نُظُم إنسانية، أو فكرية، إنما هي في النهاية مظهر من مظاهر تشكلات الروح. وقانون هذه التشكلات هو ما يسميه هيجل بالجدل. وقوام الجدل حركة أو صيرورة مستمرة. وغاية الروح في النهاية أت تعي ذاتها. ووسيلتها في بلوغ هذا الوعي: الفن والدين والفلسفة.)
ومن هنا كان عنده (موضوع الاستطيقا لا يتناول الجمال الطبيعي، وإنما يتعلق بالجمال الفني؛ لأن الجمال في الفن أرفع مكانه من الجمال الطبيعي؛ لأنه من إبداع الروح وخلق الوعي، ونتاج الحرية. وما هو من إنتاج الروح يحمل طابعها ويكون أسمى من الطبيعة!)
فهذه التوجهات المنهجية في بحث الجمالية من حيث هي في عمومها – رغم الاختلافات الجزئية – ظلت مسيطرة على الفكر الفلسفي في الغرب والمدارس التابعة له في العالم العربي. ومن هنا يقول "ولترت ستيس": (ظل منحي الفكر الفلسفي لعدة سنوات يتجه نحو ما هو حدسي وغير منطقى ولا معقول (..) ويبدو أن أنصار الحدس في علم الجمال (الاستطيقا) وفي كل أفرع الفلسفة كانوا هو الأقوى؛ إذ لا شك أن تقدير الجمال ليس عملية قياس منطقي، وإنما هي على العكس عملية مباشرة. فهي شعور! وحتى كروتشه الذي لم يكن صوفيا قط، والذي يبدأ فكره بصفة عامة بداية عقلية؛ كان مع ذلك فيلسوفاً حدسياً في ميدان علم الجمال!)
ورغم نقد (ولترت ستيس) للتوجهات السابقة في فلسفة الجمال فغاية ما وصل إليه بخطابه النقدي هذا، إنما هو محاولة التوفيق المنهجي لتحديد مفهوم الجمال ومقاييسه. قال في فصل تحت عنوان (ماهية الجمال): (إن الجمال: هو امتزاج مضمون عقلي، مؤلف من تصورات تجريبية غير إدراكية مع مجال إدراكي، بطريقة تجعل هذا المضمون العقلي وهذا المجال الإدراكي لا يمكن أن يتميز أحدهما عن الآخر.) ثم قال شارحا: (تجد في الجميل عنصرين يتحدان اتحاداً عضوياً: المجال الإدراكي في تعريفنا الذي يطابق التجسيد الحسي في المذهب المثالي، والمضمون العقلي الذي يطابق المعنى الروحي.) وبهذا المنطق يذهب إلى اعتبار (القبح) الذي ليس مضاداً عنده لمفهوم (الجمال) مقصوداً ضمن مفهوم الجمالية ما دام قد شمله الإحساس الفني، وخضع للتجربة الوجدانية، فأنتج إحساساً جميلاً، وتفاعلاً جمالياً. وذلك قوله الصريح: (القبح من حيث هو شعور استاطيقي إيجابي مؤلم ليس هو ضد الجمال!)
إن الجمالية لم تستطع أن تتخلص من بعدها الذوقي، رغم محاولة الوضعيين سجنها في حدود المادة. فقد بقيت تحت سلطان التجربة الوجدانية. يقول سعيد توفيق: (لا شك أن موضوع الخبرة الجمالية (Aesthetic experience) يعد من أهم قضايا الاستطيقا (أو علم الجمال)، بل إننا لن نجانب الصواب إذا قلنا: إن هذا الموضوع أصبح يمثل المبحث الرئيسي الذي يدور حوله هذا العلم. والحقيقة أن هذا العلم قد نشأ متخذاً هذه الوجهة البحثية: فلقد أطلق "باومجارتن" سنة: 1750م اسم "الاستطيقا" (...) – والذي يشير إلى الخبرة الحسية – على المعرفة التي تتعلق بمنطق الإحساس والشعور الجمالي؛ تمييزا لها عن المعرفة التي تتعلق بمنطق التفكير العقلي. ومنذ ذلك الحين أصبح موضوع الخبرة الجمالية موضع اهتمام كثير من الفلاسفة على اختلاف مذاهبهم.) حتى إن الفلسفة الوجودية المتمردة على كل شيء رغم تفسيرها العبثي للجمالية؛ لم تستطع التخلص من الجانب الذوقي في عبثيتها وتمردها! يقول الدكتور محمد زكي العشماوي: (تصبح فلسفة الجمال بعد ذلك عند المدرسة الوجودية ضرباً من التمرد على عبثية العالم! فالإنسان الوجودي عند ألبير كامي (يواجه العبث السائد في الكون بما لديه من حرية، وتمرد، وقدرة إبداعية. وبذلك يربط كامي بين الفن والتمرد! أو بعبارة أخرى بين الفن ويبن رفض الإنسان أن يكون على ما هو عليه! إذ يعيد تشكيل العالم وصياغته من خلال عمله الفني أو بمعني آخر: على الفنان المتمرد أن يحاول فرض شكل فني منظم أو صورة معقولة على العالم! وعنى ذلك أن الفنان الذي يرفض العالم؛ لعدمه اتساقه ووقوعه في الفوضى واللانظام؛ يسعى في ذات الوقت إلى خلق العالم من خلال العمل الفني على الوجه الذي يريده لنفسه!) كذا!.. والحقيقة أن هذه الفوضى التي عاشها الإنسان المتمرد في نفسه، وتوهمها في العالم الكوني كله! قد انتقلت إلى نتاجه الإبداعي، فكانت النتيجة التي وصفها إتيان سوريو من قبل: (حالة من البدائية والتوحش!)
ومع هذا وذاك فإنه حاول التخفيف من وطأة المآل المأساوي للجمالية؛ فجعل يؤكد في كتابه (الجمالية عبر العصور): (أن الحاجة الجمالية هي من أرسخ الحاجات التي تميز الكائن البشري، ومن أكثرها ثباتاً وقوة! (...) على أن هذه الحاجة لا يُضَارُ إلى ممارستها في الميدان الخاص والمحدود للفنون الجميلة فقط، حيث تجد – في الحقيقة – كفايتَها الأكثر سموا وصفاء وكثافة؛ وإنما نلقاها أيضاً كقوة محركة، وموجهة، ومتممة، ومشرفة ومستشرفة معاً؛ في مختلف ميادين النشاط الإنساني، كما نلقاها في الإطار العملي البحث؛ بمقدار ما نجدها في الإطار الروحاني الأسمى!)
لكن يبدو أن العبثية التي رسخها الثنائي الوجودي في فرنسا: (سارتر وكامي) قد لاءمت ظروف اهتزازا القيم في المجتمع الغربي، وتوجهاته المتمردة على كل شيء؛ لم يكن لصيحات الحكماء أثر! فكانت الحداثة وما بعد الحداثة، والبقية تأتي!